تلقت "الصباح نيوز" صباح اليوم الإربعاء قراءة نقدية للصيغة التوافقية لأحكام مشروع قانون المالية التكميلي لسنة 2014 بقلم سليم بسباس أستاذ مبرز في القانون الجبائي و المالية العمومية ووزير مالية سابق. وفي ما يلي نصّ القراءة : لقد سبق أن أبدينا رأينا إزاء فحوى تقرير الميزانية التكميلية لسنة 2014 المؤرح في 4 جويلية 2014 كما تمت إحالته في صيغته الأصلية للمجلس التأسيسي (انظر الصباح نيوز ليوم الجمعة 14 جويلية 2014). و يبدو أن العديد من الانتقادات كانت لها صدى فعليا على مجرى مناقشات اللجنة المالية للإجراءات المقترحة و قد أدت مجموعة التفاعلات بين كل من الحكومة و اللجنة المالية و رؤساء الكتل الممثلة في المجلس إلى إفراز، بعد مخاض عسير الصيغة النهائية لأحكام مشروع ق.م.ت. لسنة 2014 المؤرخة في 21 جويلية 2014 و التي تعكس رغبة كل الأطراف في حسم الخلافات و تبني في أقرب الآجال ق.م.ت توافقي. و التوافق يبقى دائما كلمة السر السحرية في هذه الحلقة الختامية للمرحلة الإنتقالية. إن منهجية التوافق إن آتت أكلها و لا جدل بأنها لعبت دورا إيجابيا في دفع كل من المسارات الحكومي و التأسيسي و الانتخابي، إلا أنها ليست بالضرورة مجدية و فعالة في ضبط السياسة الجبائية و المالية التي تقتضي الانسجام و الملائمة و تنفر التلقيق و المزايدات اللا مسؤولة. لذا، لا ينبغي أن تحجب عنا هذه الإرادة المشتركة في حسم الخلافات و الاختلافات عن طريق التوافق المخاطر الحقيقية المتعلقة بالمصادقة على قانون مالية تكميلي، من ناحية، يتضمن العديد من الإجراءات الغير منسجمة فيما بينها، فضلا عن عدم تجانسها مع محيطها القانوني و الجبائي، و من ناحية أخرى يتهافت على إقرار بعض الإجراءات التي لا تتلائم مع خصوصية الظرف الاقتصادي و المالي التي تعيشه بلادنا في الوقت الراهن. I - ضعف التناسق بين الإجراءات يشكو مشروع ق.م.ت. 2014 من هنات على مستوي تصور بعض الإجراءات راجع إلى غياب التروي في اقتراح الحلول و انعدام رؤية واضحة و متكاملة لمتطلبات المرحلة في هذه الحلقة الأحيرة من للمسار الإنتقالي. و تتجلى أهم الهنات المرصودة في غياب التناسق بين الإجراءات، وهو ما نلمسه خاصة على مستوى عدم الانسجام بين بعض الإجراءات، من جهة، و فقدان العلاقة السببية بين الوسائل و الأهداف، من جهة ثانية. 1) الإجراءات الغير منسجمة فيما بينها، أ- التعامل المزدوج مع معيار الجنسية يجدر التذكير بأن نظامنا الجبائي، على غرار ما هو عادة مكرس في القانون المقارن، لا يعتمد على الجنسية كمعيار للخضوع للضريبة بالنسبة للأشخاص المعنويين و كذلك بالنسبة للأشخاص الطبيعيين. بل إن المعيار المعتمد في هذا المجال هو مقر الإقامة أو مقر ممارسة النشاط. و كان على المشرع، في إطار ق.م.ت. 2014، أن ينضبط بهذا التمشي حتى يحافظ على انسجام المنظومة التشريعية. إلا أننا فوجئنا بتضمن هذا القانون لإجراءات تتعامل بصفة مزدوجة و متضاربة مع معيار الجنسية. ففي جين يقر الفصل 28 من مشروع القانون بأن معيار الجنسية هو المعتمد للخضوعإلى المساهمة الظرفية الاستثنائية، المحدثة بنفس الفصل، و يستثني بالتاليالأجانب من دفع تلك المساهمة، يحدث الفصل 36 من نفس المشروع معلوما بمناسبة مغادرة البلاد التونسية يتحمّله كل شخص غير مقيم بالبلاد التونسية مهما كانت جنسيته حدد ب30 دينارا يستوجب عند مغادرة البلاد التونسية. و نستنتج من هذا التضارب و الإزدواجية الاعتباطية في التعامل مع معيار الحنسية المفارقة التالية: إن التونسي الغير مقيم بالبلاد التونسية يخضع لكل من المساهمة الظرفية الاستثنائية و معلوم المغادرة بينما الإجنبي المقيم جبائيا بتونس يبقى دائما خارج نطاق كل من المساهمة الظرفية و معلوم المغادرة. ب-تضارب الإجراءات المتعلقة بالانخراط في الواجب الجبائي نسجل، من جهة، إدراح العديد من الإجراءات، في تناغم و تواصل مع السياسة التشريعية السابقة، تحفز على الانخراط في أداء الواجب الحبائي، و لكن من جهة أخرى نسطدم بإقحام الفصل 11 من مشروع ق.م.ن. 2014، الذي ينقّح أحكام الفصل 109 من مجلة الحقوق والإجراءات الجبائية و الذي بتصارب تماما مع ذلك التمشي. هذا التنقيح يمثل تراجعا صارخا و نشازا غريبا مع سباسة التحريض على الانخراط في الواجب الجبائي و ذلك من خلال الإضافتين التاليتين: أولا: تقليص عدد الخدمات المشترطة بتقديم وصل التصريح الجبائي: نسجل في هذا الإطار سحب غير مبرر لخدمة الإشتراك في شبكة الهاتف. ثانيا:ربط تسجيل عقود نقل ملكية العقارات والأصول التجارية أو كرائها بتسوية الوضعية الجبائية علاوة على أن غياب استكمال اصلاح و تعصير الإدارة الجبائية، سيؤدي تطبيق هذا الاجراء إلى إغراق المصالح الجبائية بخدمات جديدة و إلى التمديد في الإحراءات و مزيد تعطيل الفاعلين الاقتصاديين، فإن الإكراهات الإضافية لهذا الإجراء ستعمق عزوف الأشخاص عن تسجيل العقود و ثفوت على خزينة الدولة استخلاص مبالغا هامة، كما تحرم مصالح المراقبة الجبائية من وثائق هامة لتسهيل عمليات المراقبة و التقاطعات . 2) فقدان العلاقة السببية بين الوسائل و الأهداف المتأمل في الجزء الأول من تقرير الميزانية التكميلية لسنة 2014 يستنتج بأن الهاجس الأساسي للحكومة هو مواجهة العديد من الضغوطات التي تقتضي عقلنة النفقات و دعم الموارد خاصة الجبائية. من جهة أحرى أكد التقرير على أنه من أولوييات السياسة الإقتصادية، التصدي للتهريب و القضاء التدريجي على التجارة الموازية. لذا من المفترض أن يقتضي هذا التمشي أن يدقق صاحب المشروع في وجاهة الإجراءات الجديدة، خاصة ذات الكلفة المالية، و مدى ارتباطها الفعلي بالأهداف المنشودة. في هذا الإطار نسجل أنه بعد التمحيص في فحوى بعض الإجراءات المتعلقة بتخفيف الضغط الجبائي على بعض المواد و التي تم تبريرها و تقديمها تحت عنوان "التصدي للتجارة الموازية"، تبين لنا بصفة جلية فقدان العلاقة السببية بين الوسائل المقصودة و الأهداف المنشودة. فجل المواد المستهدفة من تخفيف الضغط الجبائيتتعلق في الواقع بمواد استهلاكية موردة لا تمت بصلة مباشرة بالتهريب و التجارة الموازية مما يترتب عنه بصفة مجانية اختلالا في التوازنات المالية دون تحقيق الأغراض الاقتصادية، فضلا عن الانعكاسات السلبية على الميزان التجاري و ميزان الدفوعات.. II– نقص التجانس مع المحيط القانوني و الجبائي إضافة إلى ما يشكو منه مشروع ق.م.ت. 2014 من ضعف التناسق بين بعض الإجراءات، فإننا نلمس نقائص أخرى على مستوى التجانس مع المحيط القانوني و الجبائي. 1) حث المطالبين بالضريبة للانضواء في النظام الحقيقي إن الإجراءات المتعلقة بحث المطالبين بالضريبة للانضواء في النظام الحقيقي قائمة على قرينة واهية تتمثل في اعتبار بصفة مطلقة و قطعية بأن النظام الحقيقي الملزم لمسك محاسبة يكون بالضرورة أكثر شفافية و مصداقية من النظام التقديري و بالتالي الركض وراء وهم تحسين المردود الجبائي للمنظوين الجدد مقارنة لتواضع مساهمتهم في ضل النظام التقديري. إن هذا التصور السطحي الذي أصبح الآن يكاد يكون مشتركا عند العديد من المهتمين بالشأن الجبائي لا ينطبق على مستوى الفعلي و الواقعي إلا على أصناف التجار و الصناعيين و لا ينسجم بتاتا، في محيطنا القانوني و الجبائي، مع أصناف مسدي الخدمات و المهن الغير تجارية، خصوصا الذين يتعاملون مع حرفاء غير مهيكلين، على غرار الأطباء و المحامين و مسدي الخدمات التجارية. بالنسبة لهذه الفئة، هاجس البجث عن الشفافية و مصداقية المعاملات المصرح بها، لا يمكن أن تفي به مجرد مسك محاسبة بدون تأطبر دقيق للوثائق التي تقوم بصفة مباشرة أو غير مباشرة كقرينة للمقابيض أو المداخيل. بل إن دفع هذه الفئة للانخراط في التظام الحقيقي بدوم أي إجراء إضافي لمراقبة المقابيض سيؤدي عمليا إلى تقليص قاعدة الأداء باعتبار أن المعني بالأمر قد يلجؤ إلى تضخيم الأعباء و في المقابل لا يوجد ما يحثه فعليا على تسجيل كل اامقابيض بكل نزاهة. وبناء على ما سبق يتبين جليا أن الإجراء المقترح يكون، بالنسبة لأصحاب المهن الغير تجارية و مسدي الخدمات من عير ذي جدوى، علاوة على ما يترتب عنه من آثار سلبية على ميزانية الدولة 2)إحكاماستخلاصالأداءعلىأصحابالمهنغيرالتجارية الزام أصحاب المهن الغير تجارية ،كالمحامين، الغير ماسكين لمحاسبة, بدفع صريبة دنيا توازي الضريبةالمستوجبةعلىمنظوريهمفيالقطاعالعموميأوفي غيابذلكمعدلالضريبةالمستوجبةللمهنةالمعنية، يعد إجراء مشطا و اعتباطيا و غير منصف. - بالنسبة للشطط: هدا الاجراء يؤدي عمليا إلى حرمان أكثر الفئات هشاشة من المهنيين من الانتفاع بالنظام التقديري و الحال أن هدا الأخير في جوهره و طبيعته موجه لهده الفئة من المطالبين بالأداء التي لا يسمح مستوى نشاطهم و لا حتى قدراتهم المالية من مسك محاسبة - بالنسبة للاعتباطية: فإننا ابتعدنا عن فلسفة المساهمة الدنيا المستوجبة المعمول بها في التشريع التونسي و في التشريع المقارن والتي لا يمكن أن تكون إما مبنية على رقم معاملات (قرينة قانونية لارتباط الدخل الافتراصي بحجم النشاط) و إما مساهمة دنيا رمزية تم الترفيع في مبلغها في القانون المالية لسنة 2014 إلى مستوى 300 د في حالة يكون فيه رقم معاملات النشاط أقل من 300.000 د. - بالنسبة للاإنصاف: تطبيق هذا الاجراء بصفة حصرية على المهن غير التجارية دون غيرهم من الأشخاص المنتفعين بالتظام التقديري يؤدي إلى إنشاء وضعيةو تمييز و لاعدالة تتناقض مع مبادئ النصاف و العدالة الجبائية و المساواة بين المطالبين بالأداء التي تم تكريسهم في الدستور الجديد. كما أن التطبيق سيؤدي إلى خلق حالات من الغبن و القهر لي صغار المهنيين الذين سيضطرون تخصيص جل مداخيلهم المتواضعة للجباية. علاوة أن بعض المهن الحرة ليس لها مثيل بالوظيفة العمومية فكيف سيتم ضبط الحد الأدنى للضريبة المستوجب من قبل ممارسيها ( المحامين ، عدول الإشهاد ، عدول التنفيذ ...). مما يترتب عنه انتهاكا صارخا لمبدأ المساوات بين المطالبين بالضريبة أمام الجباية. III– غياب التلاؤم مع الواقع الاقتصادي و المالي يبرز غياب التلاؤم بالخصوص في اقتراح إجراءات تتعلق بإقرار مصالحة جبائية شاملة قي موفى هذه الفترة الإنتقالية و الحال إن مثل هذا الإجراء عادة ما يقترن بافتتاح مرحلة جديدة. كما أن السياق الإقتصادي و المالي الحالي و الذي يتميز باضطراب السوق المالية و شح السيولة البنكية و انكماش الإدخار و الاستثمار لا يتلاءم البتة مع إصرار الحكومة التوافقية على التعجيل في هذه الفترة الاستثنائية برفع السر البنكي مع توسيع هذا الإجراء إلى الوسطاء في البورصة و مؤسسات التأمين. 1) المصالحةمعالمطالبينبالضريبة إن الهدف الرئيسي من المصالحة الجبائية هو إعادة ضبط العلاقة بين الدولة و المواطنين على أساس الثقة و الانصاف و الشفافية. فتوطيد أركان الدولة الديمقراطية يكون مشروطا بتحقيق المصالحة الجبائية التي تضمن انخراط الجميع في أداء الواجب الجبائي. بناء على ما سبق يتضح أن اجراءات المصالحة الجبائية المقترحة في مشروع ق.م.ت. 2014 غير ملائمة و لا وجاهة لها للاعتبارات التالية: من حيث النجاعة، إن الوضع الراهن لا يعطي انطباعا على استعادة الثقة و تجاوز سلوك الانتظار و الترقب لدى الفاعلين الاقتصاديين. بل إن الاستعداد للاستحقاق الانتخابي في الأشهر القليلة القادمة سيعزز من هذا المناخ و سيجعل من اجراءات المصالحة عديمة الجدوى و الفاعلية خصوصا و أن تاريخ صدور ق.م.ت. 2014 سيكون متأخرا نسبيا و لن يبقى لتفعيل إجراءاته إلا الوقت القليل. في المقابل سيترتب عن سن هذه الاجراءات في الآونة الحالية إدخال البلبلة و التشويش على المرحلة القادمة لأنها ستحرم حكومة ما بعد الانتخابات من أداة ناجعة لتنفيذ سياستها. من حيث الزمن، لا يمكن اعتبار مهمة حكومة مهدي جمعة تمثل قطيعة مع المرحلة السابقة بل هي تنصهر في إطار التواصل مع ما أنجزته الحكومات المؤقة السابقة و تنحصر في اختتام المرحلة الانتقالية. من حيث الطابع الاستثنائي، لقد سبق سن اجراءات مصالحة جبائة شبيهة في نفس الفترة الانتقالية في إطار ق.م.ت. 2012 و تم التمديد فيها لتاريخ 31 مارس 2013. علما و أن المجلس الوطني التأسيسي الذي صادق على تلك الاجراءات قد أكد على طابعها الاستثنائي و تعهد بأن تكون آخر مصالحة يرخص فيها. لذا لا يمكن قبول تمرير مصالحة جبائية ثانية تشمل نفس الأشخاص و نفس الضرائب في ظرف سنة بعد المصالحة الأولى و في نفس المرحلة الانتقالية. 2) رفع السر البنكي هذا الاجراء رغم وجاهته و تناغمه مع استحقاقات المرحلة و متطلبات البناء الديمقراطي و العدالة الجبائية، يعتبر اجراء غير ملائم غي هذا الظرف الاستثنائي و لا سيما في إطار قانون مالية تكميلي، موضوعه الأساسي ينحصر في مجابه التحديات الظرفية. علما و أنه قد سبق اقتراح إدراج الاجراءات المتعلقة برفع السر البنكي اثناء إعداد القوانين المالية السابقة 2012 و 2013 و 2014 و لكن في كل مرة يتم ارجاء تبني تلك الاجراءات للاعتبارات التالية: - عدم ملائمة الوضع الاقنصادي و المالي للبلاد الذي مازال يتسم بالهشاشة و مجرد التلويح بنكريس شفافية المعاملات البنكية في هذا الظرف الاستثنائي يمكن أّن تكون له عواقب وخيمة على مستوى الودائع البنكية و حجم الادخار مما يعمق أزمة السيولة التي يتخبط فيها حاليا القطاع البنكي. - أن تكريس شفافية المعاملات المالية يجب أن يكون متزامنا مع استكمال الاصلاح المؤسساتي لأجهزة الدولة و توفير الضمانات الكافية للمتعاملين الاقتصاديين و يتعين بالتالي أن يندرج رفع السر البنكي في إطار جملة الاصلاحات الهيكلية إذ يفترض أن يكون هذا الاجراء الحلقة المتوجة لإصلاح المنظومة الجبائية. علما و أن نفس هذه الاعتبارات، التي بررت التأجيل في الماضي القريب، ما تزال حاضرة، و ربما بأكثر وضوح، في الوقت الحالي و لا مبرر إذا لإعادة طرح المسألة في ق.م.ت. 2014.