وافى الأجل المحتوم أمس علما من أعلام هذا البلد الذي لا ينضب معينه. محمّد بن إسماعيل الذي نشيّع جثمانه اليوم إلى مثواه بمقبرة الجلاز هو من طينة الرجال الأفذاذ الذين سيبقون خالدين في ذاكرة الوطن. لقد تشرّفت بمعرفة الرجل منذ ستينات القرن الماضي وذلك بالسماع أوّلا إذ أنني ما زلت إلى يوم التاريخ مبهورا بالأسلوب الذي كان يتوخاه في إدارة نشرة الأخبار بالإذاعة التونسية لمّا كان يتحمّل رئاسة تحريرها. ثمّ بالمطالعة إذ أنّي كنت شغوفا بقراءة افتتاحيات جريدة Afrique -Action التي كان يخطها الفقيد في مجلة رائدة أسّسها بمعية الإعلامي المتميّز الآخر البشير بن يحمد. ثمّ أدركته وهو مدير عام للإذاعة عام 1970 في غمرة ما سمّي بربيع تونس ولقد دعاني وكنت وقتئذ أتحمّل أمانة اتحاد الطلبة للمساهمة في الحراك الفكري على أمواج الأثير ولكن سرعان ما خاب ظننا نحن الاثنين وانسلخ الربيع وانتفى الخطاف. ثمّ واصل سي محمد مسيرته المهنية فأسّس دارا للنشر هي في نظري الأرقى في إفريقيا والعالم العربي وما المدوّنة الغزيرة كمّا وكيفا التي تتباهى بها " دار سيراس" إلا دليل ساطع على ذلك ولعلّ اختيار هذا الاسم أي آلهة الخصب إنّما هي تعبير آخر عن مدى زاد الرجل الثقافي والعلمي. ولقد بادر سي محمد سنة 1975 بردّ الجميل إلى المؤسسة التعليمية التي نهل فيها من ينابيع المعرفة أي الصادقية بنشر كتاب مرجعي Sadiki et les Sadikiens وهو كتاب لا نظير له إلى الآن، اللّهم إلا إذا استثنينا أطروحة المرحوم نور الدين سريّب – جامعة السربون 1988- في ذات الشأن : Une Institution Scolaire : Le Collège Sadiki de Tunis
لمّا قامت حركة السابع من نوفمبر من عام 1987 تمّ من جديد الاستئناس بخبرة سي محمد وذلك في نطاق لجنة ثلاثية ضمت إلى جانبه الأستاذ الحبيب بولعراس والأستاذ المنصر الرويسي للنظر في واقع الإعلام وآفاقه. ولكنّ الكل يعلم أو بالأحرى لا يعلم مصير التقرير الذي دوّنته هذه الصفوة. ولقد تتالت خيبات سي محمّد من بعد ذلك وناله ما ناله من الويل ولم يشفع له لا ماضيه في مجال الدفاع عن الحريات ولا شعبيته التي نالها بفضل ترأسه من بعد الشاذلي زويتن لأعرق الجمعيات الرياضية: الترجي. ولكنه رغم ذلك انكب على ما ينفع بني جلدته في الجزيرة التي رأى على أديمها النور سنة 1926 فبعث سنة 1994 جمعية سمّاها: جربة الذاكرة واصطفى من أجل ذلك مجموعة من أهلها لترجمة بعض الأحلام إلى واقع معيش من ذلك أنه أنجز على مساحة عشرين هكتارا حذو القصر الأثري لعائلة بن عيّاد في صدغيان " جنان التفاح"، ولقد نالني شرف رئاسة هذه الجمعيّة بعد الصديقين المنصف الباروني وفريد بن تنفوس. من مناقب الفقيد والتي ستحسب إن شاء الله في ميزانه نشره لمصحف الجمهورية التونسية. جازاه الله خيرا وأسكنه جنان الفردوس.