تقبّلت الأوساط النقابية والحقوقية وسائر فصائل الحركة الاجتماعية في بلاد نا، بلوعة شديدة وأسى عميق، فقدان أحد عمداء مناضلي الحركة الوطنية والاجتماعية والحقوقية، وهو الفقيد العزيز جورج عدّة: أبو ليلى (مثلما كنت أسمّيه أنا). ... فالذاكرة الجماعية والفردية للذين عرفوه عن قرب وعن بعد من عموم التونسيين والتونسيات، لم تنس إطلاقا النضالات الوطنية الصّادقة التي خاض غمارها فقيدنا العزيزمنذ بداية شبابه اليافع سنة 1934 ضمن حركة التحرّر الوطني المناهضة للاستعمار الفرنسي القديم المباشر، وتعرّضه للإعتقال والتعذيب وويلات السجون داخل دهاليز البوليس الفرنسي. وبداية من الستينيات، واصل الفقيد العزيز نضالاته الفكرية التحرّرية بالصّوت والقلم ضمن فصائل الحركة الاجتماعية والنقابية والحقوقية، ونشر سلسلات متماسكة من الدراسات والتحقيقات والمقالات القيّمة في الأغراض العمّالية والاجتماعية كما أنّ فقيدنا الوطني الفذّ ألقى العشرات من المحاضرات الجيّدة في نفس الشأن ضمن الفضاءات النقابية والحقوقية والمدنية المختلفة، لعلّ أبرزها دراساته الشهيرة المدوّنة حول حقيقة الأسعار والأجور والمرتبات في بلادنا، وتحقيقاته الجريئة حول الأجر الأدنى الصناعي المضمون ... لقد أحسستُ بواجب المساهمة في تكريم روح فقيدنا العزيز وهو أدنى الواجبات الوطنية والأخلاقية لاعتبارات اجتماعية وطنية من ناحية، وعاطفية من ناحية ثانية: فلقد تعرّفت على الفقيد لأوّل مرّة (وهو في سنّ أبي ومقامه) حينما كنت تلميذًا يافعًا في المعهد الفنّي بباب الخضراء بتونس،، وفي نفس الأسبوع الذي تعرّفت خلاله على الأديب الفقيد الميداني بن صالح، أستاذي في مادّة التاريخ في تلك السّنة وكان فقيدنا أبو ليلى رجلا وطنيا شهمًا بجميع المقاييس، وموسوعة معرفية متنقّلة وكان في احتضانه لي باستمرار، ايقاع مذهل للحنان الأبوي (شبه البيولوجي)، وكان حريصا على أن أكون دوما تلميذا جيّدا،، ولطالما ألهمني بمهارة نادرة الثقة في النفس والتفاؤل، والإيمان بالعلم والمعرفة وبالوطن المقدّس ... وأذكر جيّدا أنّ الفقيد العزيز كان يُشعرني وأنا بجانبه على طاولة العشاء بمنزله بأنّ تركيبتي الفكرية والعقلية والنفسيّة تؤهلني (بعد النجاح في الباكالوريا) لدراسة علم الاجتماع أو علم النفس، وقد صدقت تكهّناته فعلا، وحصل ما تمنّاه لي كما أنّي لن أنسى إلى الأبد وداعته المذهلة وعطفه الأبوي حينما تفضّل بدعوتي لتناول العشاء معه في منزله والسّهر معه إلى ساعة متأخرة من الليل، ثمّ خصّص لي غرفة ابنته الوحيدة (التي يعشقها الى حدّ الأسطورة) لقضاء الليلة هناك، رغم توسّلاتي المتكرّرة بإعفائي من ذلك التّكريم الذي أخجلني كثيرا... ... وبالرغم من رحيله عنّا إلى العالم الآخر، سيظلّ الفقيد أبو ليلى على الدوام هرما وطنيا شامخا في الذاكرة الجماعية والفردية، على غرار العشرات من رجالات تونس الأشاوس الذين أثروا بعطائهم الغزير التراث الوطني النيّر للحركة الاجتماعية والفكرية والثقافية في بلادنا،، مثل محمد علي الحامي، وفرحات حشاد والحسين الكوكي والحبيب عاشور ومحمد الشرفي والميداني بن صالح ونورالدين بن خذر والمختار اللغماني وسمير العيادي وأبو القاسم الشابي وسليّم عمّار وبيرم التونسي وحسين الجزيري والهادي العبيدي وغيرهم... وسوف ينهل الجيل الحالي والأجيال اللاّحقة من ينبوع تجاربهم وحكمتهم وعطائهم...