يستعرض الدكتور الياس السرايري الاختصاصي في الطب النفسي والأمراض النفسية في الحديث التالي الآفاق الرحبة التي فتحتها ثورة 14 جانفي أمام التونسيين والشعب التونسي من خلال تخليصهم من الكبت وتمكينهم من استعادة حريتهم المسلوبة في الفترة السابقة. سؤال: دكتور، كان التونسيون يعيشون في فترة حكم بن علي التي سبقت ثورة 14 جانفي حالة من الكبت وانعدام تام للحريات الفردية والجماعية، بوصفكم اختصاصي في الطب النفسي والأمراض النفسية ما هي بكل موضوعية الآثار النفسية التي خلفها هذا الوضع في التونسيين وانعكاساته على سلوكهم وحياتهم اليومية'؟ إن تكبيل وتقييد الحريات يشكل مصدر ضغوطات نفسية كبير بالنسبة للإنسان لأن الكائن البشري يصبو بطبيعته إلى العيش في حرية .فهو يحتمل الحرمان المادي ولكنه لا يحتمل أن يرى نفسه مكبلا وحريته مقيدة . وبهذا الاعتبار فان الكبت وتقييد الحريات يعرض الفرد إلى الإصابة بشتى الضغوطات النفسية ويولد فيه حالة من الإحباط والانقباض النفسي لها بالغ الأثر على سلوكه العام فيصبح الفرد حاد الطبع ومفرط الحساسية وينفعل لأدنى الأسباب وكنتيجة حتمية لهذا التوتر في مستوى السلوك الفردي تتدهور العلاقات الإنسانية وتسودها العدائية والريبة والشك في الآخر وعدم الثقة فتنهار الأواصر الاجتماعية وتكثر المشاكل والنزاعات بين الأفراد ويتصدع النسيج الاجتماعي وهذا ما حصل في تونس في الفترة السابقة في حين أن التونسيين هم أناس طيبون ومسالمون غير أن سلوكهم أصابه الانحراف تحت تأثير الوضع المنحرف الذي كان سائدا في الفترة السابقة على مختلف الأصعدة. سؤال: كما أن منظومة القيم بأكملها تأثرت سلبا بهذه الحالة نتيجة ما طرا على النموذج السياسي والاجتماعي من انحرافات وفساد لان النموذج يمثل مرجعا للناس يستلهمون منه سلوكهم فلما لحقه الفساد عم الفساد. فما هو رأيكم؟ صحيح لأن الناس على دين ملوكهم كما يقولون. فعندما ينحرف النموذج الصادر من قمة هرم السلطة ويصيبه الفساد وتفقد القيم والأخلاق كل وزن فان سلوك الناس ينحرف ويفسد لأنهم يستندون إلى ذلك النموذج عن وعي أو دون وعي لتحديد سلوكهم ورؤيتهم للأمور.فقد تقمص التونسيون طبيعة ثانية تحت تأثير هذا النموذج المنحرف فأصبح الكل محل ريبة وشك بالنسبة للكل وأصبح كل واحد يتهم الآخر بالسقوط والكذب والنفاق وعدم الوفاء. فقد ساهم انتشار منطق الرشوة والفساد والوشاية والابتزاز وغيرها من المظاهر السلبية الشبيهة في خلق جو عام من الريبة والشك وعدم الثقة بين الناس فتعطل السير الطبيعي للحياة الاجتماعية وتشوهت نوعية العلاقات بين التونسيين الأمر الذي زاد من حدة التوتر والضغوطات النفسية وحالة الكآبة والسآمة والإحباط. فكانت سائر المنظومة منحرفة فأفرزت وضعا منحرفا في كل المستويات لأن هناك دوما ظاهرة تأقلم مع الأوضاع لا شعورية لدى الإنسان غير أنها غالبا ما تكون مصدر انقباض ويأس عندما تكون هذه الأوضاع مخالفة لطبيعة الأشياء. سؤال: هل كان لهذه الحالة من التوتر والضغط النفسي المستمر انعكاس مباشر على تزايد الأمراض النفسية؟ لقد كان هناك زيادة غير طبيعية للضغط والتوتر النفسي .فهناك ضغوطات عادية بوسع الفرد أن يتعايش معها ويتحملها على غرار الضغوط الناجمة عن مشاكل الحياة العادية في الأسرة والشارع وأماكن العمل.لكن إلى جانب هذه الضغوطات العادية كان التونسيين عرضة للضغوطات النفسية العميقة الناجمة عن حالة الحرمان والعلاقات البشرية المتأزمة الني أفرزنها الطبيعة المنحرفة للنظام السابق وتجلت آثارها في العديد من الأعراض النفسية من يأس وحزن وكآبة بحيث أن الكثير سئم الحياة ولكن الأخطر من كل ذلك أن هذا الجو المشحون أفضى لدى الأغلبية العظمى من المواطنين إلى الاستقالة والإحباط والشعور باليأس وقتل فيهم روح الحماس والاندفاع . سؤال: لأجل ذلك يتوقع الجميع مستقبلا زاهرا لتونس بفضل هذه الثورة الشعبية التي مكنتهم من التخلص من الكبت والقمع واستعادة الحرية مبرزين أن استعادة التونسيين لحريتهم المسلوبة في الفترة السابقة ستفجر طاقاتهم نحو المزيد من العمل والإنتاج والخلق والإبداع .فماذا تقولون في هذا التحليل؟ أقول بكل بساطة إن التونسيين سيصنعون المعجزات في مستوى الإنتاج بكل أشكاله الأدبي والفني والعلمي والاقتصادي بعد أن استعادوا حريتهم وتخلصوا من الغبن الذي كانوا فيه في العهد السابق بفضل ثورة الشباب والشعب بأسره.فإذا ما جرت الأمور على الوجه الصواب وكل المؤشرات تؤكد ذلك فان الشعب التونسي سوف تتوفر له قدرة جبارة على الخلق والإبداع . فبعد أن عاد الهدوء اثر الأحداث الأخيرة التي مع مرارتها كانت رائعة سيكون هناك انفجار إنتاجي وإبداعي عظيم نتيجة اضمحلال كل عوامل الضغط النفسي والاجتماعي التي ذكرناها والرجوع إلى التحلي بالقيم الأخلاقية الثابتة التي كانت دوما من شيم التونسيين والشعب التونسي بحيث أن تنقية وتصفية الأجواء النفسية مما شابها من أسباب القهر والحرمان تعد من أهم مكاسب الثورة وستساهم بصورة فعالة في مصالحة التونسيين مع أنفسهم ومع بعضهم البعض وتعيد ثقتهم في المسؤولين الذين سينتخبونهم على قواعد ديمقراطية حرة ونزيهة.