مدريد يوم 8-8-2018 تختصّ كل مهنة أو حرفة أو وظيفة أو أيّ عمل ونشاط من نشاطات المرء الحياتية ، بقاموس لغويّ تنفرد به ، فتصبح الكلمات والمفردات والتعابير لها في ذلك القاموس الخاص ، مفهوم ومعنى يختلفان عن مدلولها في قاموس آخر من هذه القواميس أو الموسوعات اللغوية المهنية ، إن صحّ التعبير. لم تكن السياسة ، التي اصبحت مهنة وحرفة ووظيفة ومعتقدا ووسيلة غايات أخرى لا تقال ولا ترى ، لها هي أيضا قاموسها الخاص ، يحوي ثروتها اللغوية المتزايدة الإثراء باستمرار وتواصل. سأقف عند اسمين ، أو عبارتين ، لهما في السياسة وبين محترفيها ، مدلولات أو مفاهيم بعيدة كلّ البعد ، عن معناها الدّارج السائد بين من ميّزهم الخالق بالنطق والفهم. هاتان الكلمتان هما اليمين والشمال أو اليسار، اللتان ، وإن دلّتا على اتجاه ، ليس بالضرورة ذلك الخاضع للجهات الأصلية من شرق وغرب وشمال وجنوب التي جاءتنا بها الجغرافيا ، ولو أنّ أصل استعمالها واعتناقها انطلق من ذلك المفهوم البدائي العام. لأننا لو سألنا عن أصل هذه التسمية وعمّن بعثها ، لجاءنا الجواب يقول: إن الأصل التاريخي لهذا " الانفساخ " يوجد في الوضعية الجغرافية لمختلف الأحزاب السياسية في " الجمعية الوطنية " الفرنسية بعد الثورة ، في ما بين شهري أغسطس /آب وسبتنمر/ تشرين الأول عام 1789 . فأثناء المداولات حول ثقل دورالسلطة الملكية تجاه سلطة الجمعية الشعبية في الدستور المستقبلي ، جلس النواب المؤيدون لحق الملك في الاعتراض – أغلبهم من النبلاء ورجال الكنيسة – وتجمعوا على يمين رئيس الجمعية التاسيسية ، وهي وضعية من بقايا عادة " الأماكن الشرفية ". خلافا لذلك ، جلس معارضو ذلك الحق في الاعتراض ، فتجمعوا على يسار الرئيس تحت لافتة " الوطنيون ". هكذا أصبح المشهد ، من ناحية " على اليمين " الملكيون المغالون ، المعارضون ومناصرو القضية الملكية ، ومن ناحية أخرى " على الشمال " الأحرار الليبيراليون ، ورثة الثورة الفرنسية والإمبراطورية الأصليون ، المدافعون عن الحريات الفردية والتبادل الحر، الموالون لملكية دستورية معتدلة. هكذا ، ومنذ ذلك التاريخ ، عملت المحاكاة مفعولها ، فاعتنق السياسيون تلك التسمية وأصبحوا يُصنّفون ، ويُنعتون ، ويُميّزون ، أو يُذمّون ، بإحدى الصفتين فهذا يميني وذاك يساري ، بعد أن أدخل تحريف أو تغيير على المقصود والمدلول . لكن ، لئن صدق هذا التاريخ في تحديد بداية استعمال هاتين المفردتين لنعت أو وصف أو تحديد ميولات الأفراد والجماعات ، سياسيا على الأقل ، فإن اليمين والشمال كوصف أو تقييم لتمييز أو وصف المجموعات البشرية الواحدة عن الأخرى ، بما اختصت به وامتازت من خير وشر ، فقد جاء بها القرآن الشريف قبل ألف سنة ونيّف. فالله سبحانه يقول في كتابه الكريم: " وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَماءٍ مَسْكُوبٍ * وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ. ." " وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ. " فأصحاب اليمين هم الذين آمنوا بالله واليوم الآخر والكتاب والنبيين ، وآتوا المال على حبه ذوي القربى واليتامي والمساكين والسائلين وفي الرّقاب ، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ، والصابرون في البأساء والضراء وحين البأس ، أولائك الذين صدقوا ، وأحسنوا وأنفقوا في سبيل الله ، أولائك الذين يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ويصبرون على ما أصابهم ، لا يمشون في الأرض مرحا ، ولا يصعّرون خدودهم للناس ، ويقصدون في مشيهم ، ويغضون من أصواتهم، ولا يبذرون ، ويوفون بالعهد إذا عاهدوا ، ويؤدون الأمانة ، ويحكمون بالعدل إذا حكموا ، ويتشاورون في أمورهم وشؤونهم ، ويرفقون بالضعفاء منهم ، ويعفون إذا غضبوا ، ويتعاونون على البر والتقوى ، لأنهم بهذه الأخلاق يفلحون. أما أصحاب الشمال فهم الذين لا يؤمنون ، وبكل حقيقة يكذّبون ، وبمبادئ الأخلاق يستهزئون ، من كل محرّم ممنوع يَطعمون ، عن منهج أصحاب اليمين منحرفون، وراء أمور الدنيا وخلاعتها يجرون ، قاعدتهم كل شيء جائز مقبول ، أيّا كانت سبله ووسائلها فهم فيها سائرون ، يكفي أنها تضمن الحياة الدنيا وزينتها ، ولو أدى ذلك إلى موالاة العدو والتفرقة, أصحاب اليمين إذن هم الفائزون ، وأصحاب الشمال الخاسرون. الغريب في الأمر هو أنه لو انتقلنا إلى عالم السياسة ومفاهيمها ، وتصنيفاتها ، وتقييمها ، وجدنا النتيجة مشابهة شديد الشبه لما سلف ذكره. فبعد الصراعات المستميتة في معظم دول ونظم العالم بين اليمين والشمال أي اليسار، ساد الحكم والاعتقاد بأنّ اليمين هو الأصلح لأنه اليسر والأمن والاستقرار، بينما اليسار هو الأضر ، لأنه العسر والفوضى وانعدام الطمأنينة. لماذا ساد أو انتشر هذا المفهوم والاعتقاد ؟ الجواب عند المثل الشعبي : "فارس من ركب اليوم" بينما الحقيقة ، لو تمعّن المرء وتبصّر، مختلفة تمام الإختلاف. فلا اليمين ولا الشمال كما وُصِفا ، وكلاهما له محاسنه وعيوبه ، وأكبر العيوب هو أن كلاهما والمنتسبين لهما يعتقدون أنهم وحدهم المحقون. فلو سألت اليميني عن اليساري لقال لك أنه يهدد الاقتصاد ، ويزرع الفوضى باسم العدالة الاجتماعية ، ويتعدّى على الدين ، والأخلاق ، بما يسميه حريات ومساواة ، ويستمر يكيل بلا وزن أو قياس. أما إذا سألت اليساري عن مجابهه لقال : إنه جامد متزمت ، باسم الدين يستعبد الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ، ويكنز المال والثروات على حساب العمال وعرق جبينهم ، ويحول دون حقوقهم في العمل والتعلم والمساواة أمام القانون وفرص العمل والحياة ، ويطول خطابه بما يسيل لعاب من فعلا يريد الخير ، الخيرَ حقًّا ، للبلاد والعباد. كلّ هذا وغيره كثير، نشأ مع أو إثر الثورة الصناعية – 1840- التي حولت المجتمعات الزراعية إلى صناعية وتجارية ، فتغيرت المصالح والحاجيات ، ومنها العادات والتصرفات والمتطلبات ، فنشأت أفكار وفلسفات ، ومنها تجمعات وحركات كالإشنراكية -1820- التي نادت بالمساواة الإجتماعية أو على الأقل تخفيض نسبة عدمها ، والشيوعية -1848- التي سارت وراء إزالة الطبقات والملكية الفردية وغير هذا كثير ، والنقابات – 1884- التي نظمت العمال للدفاع عن حقوقهم والمطالبة بها وطرق تلك المطالبة ، ويمكن القول اختصارا وتسهيلا ، كانت كل تلك التحركات ومحاولات الإصلاح والتحسين تدور في فلك أو حول أو باتصال – ومقاومة – لما عرف بالرأسمالية. كلّ هذا ماض وتاريخ ، بصراعاته وقلاقله ونتائجه التي يصحّ القول أنها إيجابية ، لأنها حققت الكثير من الإصلاحات ، وضمنت الكثير من الحقوق ، وما هو أهم ، اعتراف كل الأطراف في النهاية وإلى اليوم ، بما كان مطالب وشروطا ومقتضيات. ليس أدل على ذلك ، من أن لا أحد يعارض اليوم ، ولو كان يمينيا ، حقّ الفرد في الراحة الأسبوعية ، ولا الإجازة السنوية ، ولا حقه في التمتّع بالتأمين الإجتماعي ومثل هذه المنجزات وافر عديد ، يدفعنا إلى القول ، أنّه لم تعد حاجة إلى يمين وشمال، بما أن الحقوق والحاجيات الضرورية للشعب وعماله قد اتفق عليها ، فلم يبق إلا السهر على ضمانها ، وضمان ديمومتها واقعيا ، وهذا لعمري يسهل الاتفاق عليه إذا خلت النفوس من أغراض غير هذه الأهداف ، ولم تعد حاجة ، بالنسبة لبلداننا على الأقل ، من محاكاة وتقليد الآخرين ، لأنّ المنطق والمفهوم العام يرى أن اليميني واليساري ، وأيا كان اتجاه الناشط لفائدة المجتمع والشعب ، وأيا كانت ميولاته ، فهو لا يبغي – حسب المنطق والظاهر – سوى مصلحة الجميع التي ستشمل لا محالة مصلحته الشخصية ومصلحة أشباهه. لكن ، والحديث ذو شجون ، لماذا يوسم اليميني دوما بحبّ المال والأنانية وحرمان عماله من حقوقهم وغير هذا من السيئات والعيوب؟ ولماذا ينسب دوما لليساري معاداته الدّين أو حتى الإلحاد ، وإيباحية مبادئه، ومقاومته الثروة والأثرياء ، وغيرها من النواقص حسب المفهوم الرائج ؟ إن المنظق يقول أن كلاهما من البشر، بما في هذا الأخير من عيوب ومحاسن ، فخطأهما إذن هو امتثال كلّ منهما لخصائص وشعارات ومقولات ، صحّت أو أخطأت ، ولقواعد مبدئه ولو خالفت المنطق والمعقول. سؤالان يكفيان لشرح ما غمض: ألا يمكن أن يكون لليميني شعور اجتماعي كأخيه اليساري ؟ وهذا الأخير، ألا يمكنه أن يكون يساريا بلا معاداة الدّين وهو ، كما نعلم عبادات شخصية بحتة ، ومعاملات فيها ما ينادي به اليسار؟ ليبحث من أراد التأكد وليجب إن أراد الإجابة وله الشكر والثواب. أمّا بالنسبة لنا الآن ، فإنّ ذلك ليس سوى بقايا ماض ولّى ، فهمّنا الحاضرالذي بعولمته وثورته التقنية أتى وسيأتي بكثير وعميق التغييرات والتطورات ، محدثة الكثير والعميق من المشاكل والهزّات ، بوادرها بدأت تلوح في مهد كلّ هذه المبادئ والثورات والاتجاهات وتسمياتها ، أعني بلاد الغرب حيث بدأت هذه المستجدّات وما تبعها ويتبعها من قوانين وقرارات ، ومواقف واتجاهات ، تقضم بعض الحقوق ، فترتفع ، وارتفعت الأصوات احتجاجا أو تحذيرا من مغبة ما هو آت ، فما يخشى الآن هو العودة إلى الصراعات والمجابهات ، بما ينتج عنها من خسائر وضحايا لأنّ الحياة – كما قال الشاعر- دُول ، وهذه الدار لا تبقي على أحد ، ولا يدوم على حال لها شان. أين نحن وأشباهنا من كلّ هذا ؟ متفرّجون مُستهلكون لا غير؟ ! سنرى. فلننتظر إذن ، وإنّ غدا لناظره قريب.