كلمات في رحيل "حنا مينة" رحل صاحب "الياطر"... فاجعة هذا العيد هي بلا شك رحيل صاحب "الياطر"، المبدع السوري الكبير حنّا مينه الذي كدح وقاوم وضحّى وثابر من أجل أن يصبح أحد أعلام الرواية العربية وأحد أبرز رموز الواقعية الاشتراكية في الأدب العربي الذي عكس هموم شعبه الوطنية والاجتماعية. "الياطر" هي، إلى جانب "ليلة الليالي" لحسن بن عثمان و"الزّيني بركات" لجمال الغيطاني و"اللجنة" لصنع الله إبراهيم و"العجوز والبحر" لهيمنغواي، من الروايات التي ما أن وقعت بين يديّ حتى التهمتها على نفس واحد. زكريا المرسنلي، بطل الرواية، "رابط الحوت في الماء، الراقص على ظهره في الماء" ظل راسخا في ذهني بشكل غريب... نقل حنا مينه معاناة الرجل "الفار من العدالة" وأحاسيسه وتناقضاته بأسلوب جعلني أشعر وكأنني التقيت الشخص نفسه وقصّ عليّ مباشرة قصّته دون انقطاع ونفسي تتموّج معه صعودا وهبوطا، صخبا وهدوءً، غيضا وحماسة. ذات مرة كنت بسجن "الناظور" ببنزرت، في زنزانة رقم 4، وكان يقيم بالزنزانتين المجاورتين، سجينان محكومان بالإعدام. كانا يقضيان معظم وقتهما بالزنزانة، كل واحد منهما موثوق من يده، بسلسلة مثبتة بالحائط. كما كانا يقضيان معظم ساعات الليل في تلاوة القرآن بصوت عالٍ مقاومة للأرق... وكان أصغرهما (ف. ب. د) يجهش أحيانا بالبكاء وتتحول تلاوته القرآن إلى صراخ من شدّة الوساوس التي تداهمه ولا يقدر على صدّها. كنت كل مرة أستمع إليهما، وهما يتضوّران، إلّا وجالت بخاطري صورة زكريا المرسنلي، قاتل "زخريادس الخمّار" وهو يتعذّب في الغابة، ملجأه بعد ارتكاب الجريمة... كان يقول متألّما: "آه يا زخريادس أنت لو رأيتني لأشفقت علي... القتيل لو رأى عذاب قاتله لأشفق عليه..." ما أعظم تلك الرواية ناهيك أنني بعد أن قرأتها صعب عليّ أن أقرأ روايات أخرى لحنّا مينه حتى أنني أبدأ في بعض الأحيان قراءة الرواية ثم أتوقف عنها حفاظا على مكانة صاحب "الياطر" في ذهني... وحتى رواية "الشراع والعاصفة" التي تُعَدُّ من أفضل الروايات العربية بل يعُدّها البعض أفضل آثار حنا مينه، فإنها لم تترك في نفسي الأثر الذي تركته رواية "الياطر"... ربّما للظروف النفسية التي قرأتها فيها، ظروف السرية... ربما لأنني كنت أنا نفسي أبحث، ولو لأسباب غير أسباب المرسنلي، عن "الأمان"... وربّما شدّتني، في الرجل البحار، الفقير، شهامته... فحين سمع أن "حوتا كبيرا" قادما من بعيد جاء يهدّد القرية من جديد ثارت ثائرته في وجه البحارة الهاربين خوفا على أنفسهم وفزع لمواجهته، غير مبال بمصيره الشخصي وهو المبحوث عنه... فالوطن يسكن دائما قلوب الفقراء... رحل حنا مينه وبرحيله يفقد البحر توأمه الذي "بلّلت مياه موجه الصاخب معظم أعماله..." كما يفقد الكادح سنده الذي بلل عرقه معظم رواياته... وخوفي أن يطول انتظارنا لظهور حنا مينه آخر في هذا الزمن المظلم... فيبقى البحر بلا توأم...