تعودت الديمقراطيات المعروفة في الدنيا ان تحكم بالأغلبية المطلقة او النسبية التي تفوز فيها في الانتخابات العامة الحرة والنزيهة وتلتجئ عند الاقتضاء للتحالف في الصور التي تفتقدها مع الاحزاب القريبة منها في الاتجاهات والرؤيا وفي البرنامج التي انتخبت على أساسها بعد اتفاق بين الحلفاء في توزيع الحقائب الوزارية بصفة تتناسب مع المقاعد المتحصل عليها. اما عندنا في تونس فقد رأينا ذلك يحصل في انتخابات أكتوبر 2011 التي جاءت فيها النهضة في الرتبة الاولى ولكن النظام الانتخابي المعتمد كان يفرض النسبية والاخذ بأكبر البقايا وهو ما لا يسمح لأي حزب من الفوز بالأغلبية فيه. انهم قالوا لنا وقتها بان ذلك الاختيار كان مقصودا حتى يشارك في كتابة الدستور أكبر طيف من الشعب التونسي والله أعلم؟ وهكذا رأينا النهضة وقتها كيف تتحالف مع المؤتمر والتكتل بالرغم من اختلافهما معها في التوجهات والمبادئ، وتقاسمت معهما الحكم والسلطة بإعطاء رئاسة الجمهورية الشرفية للمنصف المرزوقي ورئاسة المجلس التأسيسي لمصطفى بن جعفر وابقت لها رئاسة الحكومة قطب السلطة النفوذ وعينت أمينها العام حمادي الجبالي فيها. لقد فاجأ ذلك التحالف الغير المتوازن الطبقة السياسية وخاصة منها الحداثية وبقايا العهد السابق والإدارة العميقة. لذلك لم يتيسر اتمام العهدة بسبب الاحداث والتعطيلات التي وقعت في تلك الفترة وأدت الى خروج النهضة من الحكومة واستمرارها في الحكم مع حليفيها الى الانتهاء من كتابة الدستور والمصادقة عليه بأغلبية موصوفة بفضل التوافق الذي أنتجه الحوار الرباعي الذي أفضى الى تنصيب حكومة تكنوقراط التزم أعضاؤها بعدم الترشح لأي انتخابات تجريها. وللتذكير جرت تلك الانتخابات التشريعية والرئاسة في نهاية سنة 2014 وفاز فيها نداء تونس ذلك الحزب المستحدث على عجل من كل الطيف السياسي وخاصة المعارض منه للنهضة التي جاءت بالرغم من ذلك الثانية فيها وبفارق صغير عن نداء تونس الذي انفرد وتغول بالمواقع الثلاثة: رئاسة الجمهورية ورئاسة المجلس النيابي ورئاسة الحكومة، ولكنه وجد نفسه معطلا لأنه لا يملك اَي اغلبية في مجلس نواب الشعب المتركب من فسيفساء ونجح البعض فيها بطريقة الرهان الرياضي. ولأجل ذلك وقع التحالف بينه وبين بعض الاحزاب العلمانية الاخرى القريبة من توجهاته، ولكن رئيس الجمهورية رأى ان ذلك التحاف لن يساعد الحكومة على تمرير القوانين الاساسية التي تتطلب اغلبية موصوفة لم تكتمل له بعد، وأشار على الحبيب الصيد الذي اختاره هو من خارج النداء بإعادة النظر وإقحام النهضة في التشكيلة. لم يجد رئيس الحكومة وقتها من النهضة صعوبة تذكر ورضيت بحقيبتين عاديتين في الحكومة لأنها كانت تدرك أهمية وضع قدمها في السلطة كي تحمي ظهرها من حملات التشهير التي طالتها ولدرء المخاطر التي كان ينادي بها خصومها سرا وعلانية اثناء الحملة الانتخابية بالرغم من تأييدها لمرشح النداء لرئاسة الجمهورية. بذلك التوافق الغير المتوازن أمكن لحكومة الحبيب الصيد العمل بأريحية وكانت النهضة متعاونة معه لأبعد الحدود الي درجة انها صادقت على قوانين مخالفة لتوجهاتها هي وتعرضت بسببها الى نقد داخلي في صفوفها واستفزاز متكرر من خصومها الذين لم يقبلوا بتواجدها اصلا في تونس. اما ضريبة ذلك التوافق فكانت في نداء تونس وقد دفعها بالحاضر بتشققه وخروج البعض منه احتجاجا وتشكيلهم لأحزاب أخرى وساءت علاقته مع حلفاء الامس الى حد القطيعة. ولكن ذلك التحالف لم يصمد طويلا وخرجت منه أحزاب ووزراء لم تؤثر فيه بفضل حركة النهضة التي تواجدت بجانبه في اَي محنة وحتى في زمن تردد الحبيب الصيد لما تقرر تغيير حكومته اثر حوار وثيقة قرطاج الأولى التي لم يحضر فيها ولا مرة. وهكذا انتهت حكومة الحبيب الصيد بسحب الثقة منها بطلب منه لتخلفها حكومة الوحدة الوطنية الموعودة برئاسة يوسف الشاهد الذي اقترحه السيد الباجي قائد السبسي شخصيا. لقد تشكلت تلك الحكومة وتم الإبقاء على حركة النهضة فيها كشريك وتعرضت الى هزات عديدة ولكنها كانت دائما مسنودة في المجلس بالتوافق الذي أنهى سلطة نواب الشعب فيه وباتت كل المعارضات مشلولة بحكم التصويت المريح الذي تسانده النهضة حتى ساءت علاقة الشاهد بالنداء اخيرا وخاصة بمديره التنفيذي لأسباب لم يفصح عنها في الأول وباتت الإشاعة سيدة الموقف الى أن تمت الدعوة للقاء جديد تحت عنوان وثيقة قرطاج 2 للنظر في الخطة الاقتصادية الممكن اعتمادها لتجاوز الصعوبات التي تراكمت ولم تجد لها حكومة الشاهد لها حلا، وانتهى ذلك المسار بالاتفاق على 63نقطة قدر انها كفيلة بإصلاح الوضع المالي والاقتصادي وتعطل في النقطة 64 الاخيرة المهمة والمتعلقة بالحكومة ورات النهضة وحدها بضرورة إبقاء الشاهد كرئيس للحكومة والاكتفاء بتحوير معمق فيها. وبذلك علق رئيس الجمهورية ذلك الحوار لأنه في نظره لم يعد منه فائدة ترجى ودخلت تونس من وقتها في ازمة سياسية انتهت بذلك الحوار الذي أجراه الرئيس على امواج قناة خاصة زادت الحالة تأزما وتعقيدا وباتت وسائل الاعلام والمواقع الافتراضية في حيرة ولم تتبين لها الحقيقة. اما الذي توصلت اليه بالمتابعة وعملا بقاعدة الغاية تبرر الوسية فان مخ الهدرة يبقى في تغيير الشاهد الذي بات عصيا ويمثل رقما صعبا يخشى منه لو دام في ذلك الموقع الذي قد يؤهله لرئاسة الجمهورية لو اراد وكان ولا بد من قطع الطريق عليه وزادت مراكز سبر الاّراء التاكيد بنمو شعبيته على رئيس الجمهورية الذي مازال يفكر في الترشح لدورة ثانية اذا سمحت له الظروف. لذا ازداد المشهد السياسي سوءا وتمترس رئيس الحكومة بموقعه وتشكلت له كتلة ثانية بالمجلس بالإضافة لكتلة النهضة التي جربها في تمريره لوزيره للداخلية الجديد الذي فاز بالثقة بكل سهولة أدخلت ارتباكا في صفوف النداء ورأينا المتبقين من نوابه يركضون في اللحظة الاخيرة ليلتحقوا بالمصوتين خوفا من الهزيمة. كما تذكرت تلك الرسالة القصيرة التي كتبتها منذ شهر تقريبا ووجهتها للشاهد مفتوحة ذكرته فيها بصلاحياته الدستورية التي تخلى عنها وطلبت منه ان يحزم امره او يستقيل، ويظهر ان الاحداث باتت تؤكد استفاقته وأخذه للامور بجدية متخلصا من الوصاية التي فرضت عليه بالرغم من بلوغه لسن الرشد وقد ظهر ذلك جليا في المرارة التي تحدث بها رئيس الجمهورية في حواره الأخير الذي ذكرني بحكمة قديمة تقول” الصيف ضيعتِ اللبن” وهو سيد العارفين. اما بالنسبة لتونس فأقول انها بذلك خرجت من توافق الأمزجة الشخصية الى التحالف المؤسساتي الذي سوف يثبت ويدوم وفِي ذلك الخير كله لتونس ولبقية الأطراف المعنية.