هناك شبه اجماع أن ما تحقق من مكاسب بعد انتفاضة/ثورة 17 ديسمبر 2010/14 جانفي 2011 التي من أجلها استشهد و جرح كثر ينحصر في حرية الاعلام والنفاذ إلى المعلومة حتى أصبح المواطن التونسي يعلم نسبيا ما يقع في سماء بلاده وفي أرضها وتحت ثراها، ويعلم خاصة ما يحصل "تحت الطاولة" في ما يخص حاضر بلاده ومستقبلها والفساد الذي ينخر جل القطاعات بها جراء جمع المال من حلاله ومن حرامه، والوصول إلى المناصب وأعلاها بشتى الطرق والوسائل ولكننا مع الأسف الشديد والكبير وجدنا أنفسنا نحنّ للمثل الشعبي الذي يقول «عين لا ترى قلب لا يوجع» لأن الغم غمان والقهر قهران! فمع قهر غلاء المعيشة وضنك العيش واستفحال البطالة وانعدام كل مقومات العيش الكريم ترانا نطرد الكرى ونقوم نشكو ليالينا جراء ما نرى ونسمع عن إهدار أموال بلادنا وخيراتها واستحواذ أصحاب المناصب ومن بيدهم القرار في جميع دواليب الدولة ومؤسساتها عليها، وفي المقابل يبيت شعبنا على الطوى ويظله يعاني الخصاصة و الفاقة، وكلما تقدمت به الأيام والأسابيع إلا وازداد عيشه ضيقا و مرارة أين يؤم يكتوي بنار العجز واليأس. شدّتنا هذه الأيام الأخبار التي تتحدث عن تكلفة بنزين السيارات الادارية التي بلغت 540 مليون دينار سنويا حسب احصائيات أعلنتها مؤخرا جمعية مكافحة الفساد، ويصل عدد السيارات الادارية في تونس دون اعتبار سيارات الأمن والجيش والحماية المدنية إلى أكثر من 84000 سيارة، وفي المقابل طلبتنا ينتظرون إسعافهم بالسكن قبل الالتحاق بكلياتهم ويجابهون الظروف التعجيزية التي وضعتها وزارة الإشراف للحصول على المنحة الجامعية إلى جانب عدم التحاق الآلاف من تلامذتنا إلى مقاعد الدرس بسبب عدم تأهيل المدارس و نقص الاطار التربوي و البيداغوجي و غياب أسطول النقل المدني و خاصة الريفي و عدم توفير الأعوان و السوّاق و الفنيين لتأمين السفرات التي توصل أبناءنا إلى مدارسهم و معاهدهم و أنى لهم ذلك و الطرقات غير معبدة و حالة المسالك الريفية كارثية. و من جهة أخرى، هل أتاكم حديث السيارة التي اشتريت لأحد المسؤولين في قطاع الكيمياء و الفسفاط و التي بلغ ثمنها 160 مليون مليم في الوقت الذي يعتصم فيه عاملات و عمال شركة المجمع الكيميائي التونسي بالوحدة الثانية بالمظيلة احتجاجا على ما وصفوه بالوعود و المماطلات الكاذبة لمدة سنوات من قبل المسؤولين وبسبب ظروف العمل الشاقة وطرق الانتدابات مطالبين بإلغاء العمل بالمناولة وكيف أنهم لا ينالون من الفسفاط إلا ما يعود على أبنائهم وصحة أبدانهم بالمضرة و الأمراض القاتلة، أمّا خيرات الفسفاط فهي للأعيان وأصحاب الجاه والسلطان. وأمّا عن أخبار الامتيازات التي ستطال رؤساء البلديات الجدد فهي لا تحصى و لا تعد ولا يحلم بأخماسها و لا بأسداسها الجندي المرابط في الحدود في الهاجرة والثلوج و لا الأمني المتسمر تحت أشعة الشمس و زمهرير الشتاء و لا المربي الذي يدرّس في شبه اسطبل وأمامه أربعون تلميذا و لا الطبيب الذي يعالج المرضى في مستشفيات لا تتوفر فيها أبسط التجهيزات والمرافق الصحية و لا غيرهم ممّن آثروا خدمة المجموعة العامة على حياتهم الخاصة. أما عن أعوان التنظيف، فإننا نظن أن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين كان سيستحي و يسحب كتابه "المعذبون في الأرض" لو رأى وضعيتهم التي تشير إلى أنهم يسيرون إلى حتفهم المحقق، فلا زيّ و لا قفازات و لا أدواش و لا مواد تنظيف و لا متابعة و لا رعاية صحية، هم و أبناؤهم مصيرهم الإيواء في أقسام الأمراض السارية و المعدية إن وجدوا سبيلا إلى ذلك إلى أن تصعد أرواحهم إلى بارئها. أ لم نقل "عين لا ترى قلب لا يوجع" في ظل وضع اتسعت فيه رقعة الفساد على الراقع، وهو وضع لا يعالج إلا بثورة جديدة تأتي على الأخضر واليابس من تجار السياسة والدين والنقابيين البيرقراطيين!