حاولت الندوة التي نظمتها هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي والتي كان محورها الكشف عن الوثائق التي تحصلت عليها الهيئة والمتعلقة بملف قضية مصطفى خذر التي انطلقت منذ سنة 2013 ووجهت فيها التهمة إليه بحيازة وثائق تهم وزارة الداخلية والاحتفاظ بها دون وجه قانوني ونال بسببها حكما بالسجن النافذ مدته ثماني سنوات سجنا منذ سنة 2015 أن تثبت أمرين الأول أن هناك جهازا أمنيا خاصا وجهاز استخبارات تابع لحركة النهضة والأمر الثاني اثبات أن هذا الجهاز الخاص له علاقة مباشرة باغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي وكان من المؤمل بعد هذه الندوة الإعلامية أن يحصل نفس ما حصل في زمن حكم الترويكا من حشد إعلامي كبير و تغطية مكثفة ومؤطرة وتجييش جماهيري واسع ينتهي بعزل النهضة سياسيا وإعلاميا وإدانتها من قبل صدور حكم الإدانة ومن وراء ذلك تجني الجبهة الشعبية عزل الخصم السياسي المباشر وتقطف ثمار هذه الاستراتيجية بدخولها الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة بمفردها من دون منافس من الحجم الثقيل كان يهدد فوزها غير أن هذه الأمنية على ما يبدو لم تتحقق فلم ينخرط الإعلام كما فعل في السابق في هذا المسار وتجنب الشعب التموقع إلى جانب هيئة الدفاع عن الشهيدين لعلم الكثير من أفراده أن وراء عملية الاغتيال جهات أجنبية وأجهزة مخابرات استعملت السلفيين وتحديدا جماعة أنصار الشريعة بعد أن تم اختراقهم من أجل تنفيذ أجندات سياسية باتت اليوم معلومة عند الجميع والكلمة التي ألقاها الرئيس الفرنسي ماكرون في القمة السابعة عشرة للمنظمة الدولية للفرنكوفونية في هذا الاتجاه. إذن لم ينجح مخطط الجبهة الشعبية في عزل حركة النهضة سياسيا واقتنع الكثير من الناس أن هذه الحركة التي كانت زمن حصول الاغتيالات في الحكم وبالتالي لا يمكن في علم الجريمة أن يرتكب من كان يقود السلطة فعلا إجراميا يتسبب في احراجه و خروجه من الحكم ففي مثل هذه الجرائم إذا أردت أن تتعرف عن الجاني فأبحث عن الجهة المستفيدة من الجريمة فما حصل هو أن اغتيال شكري بلعيد تسبب في سقوط حكومة حمادي الجبالي واغتيال محمد البراهمي كان وراء نهاية حكومة علي العريض وبالتالي فإن الخاسر الكبير من حصول الاغتيالات هي الترويكا وفي المقام الأول حركة النهضة التي تتهمها الجبهة بارتكاب الاغتيالات . وعلى أساس وقع استبعاد ربط ملف مصطفى خذر بالاغتيالات السياسية وحصلت القناعة أن النهضة غير معنية بما حصل لشكري بلعيد ولمحمد البراهمي وتم حصر زاوية الاهتمام والقصف الإعلامي كما يسميه برهان بسيس في اثبات وجود جهاز خاص يعمل لصالح النهضة لا يزال يشتغل إلي الآن رغم تواجد هذه الأخيرة في السلطة وقد فتحت هذه الفرضية شاهية الحديث عن ماضي حركة النهضة في زمن الاستبداد وانطلق النقاش حول وجود جهاز أمني تكوّن في زمن حكم بورقيبة وبن علي وأن هذا الجهاز تم احيائه من جديد بعد الثورة يقوده المدعو مصطفى خذر. فهل فعلا للنهضة اليوم جهاز أمني خاص ؟ وكيف نبرر وجود مثل هذه الأجهزة التي لم تخل منها مرحلة من مراحل التاريخ الثوري للتنظيمات التي قاومت الأنظمة الاستبدادية وخاصة التنظيمات اليسارية التي استعملت العنف الثوري لمقاومة الديكتاتوريات واتبعت السرية لحماية نفسها ؟ نحاول في هذا المقال الفكري النظري أن نجيب على سؤال هل يمكن أن ندين الحركات الثورية والأحزاب التي كانت تقاوم الأنظمة القمعية على توخيها السرية وعلى اتباعها استراتيجية في التغيير السياسي تقوم على استعمال العنف المتبادل ؟ وهل نلوم حركات المعارضة التي لم تترك لها الأنظمة الديكتاتورية مجالا للتعبير وهامشا من الحرية للتواجد القانوني من أن تحمي نفسها من قمع الأنظمة ؟ وأخيرا هل يجوز لنا اليوم أن نحاكم فكر التنظيمات السرية في مرحلة الاستبداد بثقافة مرحلة الديمقراطية والحريات ؟ هناك رأي يذهب إلى أنه ليس هناك من الناحية النظرية ما يمنع من أن يكون للأحزاب والتنظيمات السياسية التي تجبرها أنظمة الحكم على توخي السرية في عملها وتمارس ضدها القمع والتضييق والمحاكمات الجائرة من أن يكون لها جهاز خاص ونظام أمني لحماية نفسها ولممارسة الضغط على الأنظمة وهي استراتيجية كانت قد اتبعتها الكثير من الحركات الثورية الماركسية التي قاومت الانظمة الاستبدادية في أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية . كما ليس هناك ما نلوم عليه أحزاب المعارضة التي تمارس عليها الحكومات الاستبدادية وكذلك حركات التحرر الوطني من أن تحمي نفسها من بطش أنظمة الحكم الجائرة بل أنه من الغباء أن لا يكون للتنظيمات التي تهدف إلى التغيير الاجتماعي وإلى التحرر السياسي من أن يكون لها جهاز خاص أو جهاز استخبارات تابع لها وهذا فعلا ما فعله الرئيس بورقيبة في مرحلة التحرر الوطني حيث اعتبر الحزب الدستوري الجديد الذي جاء على أعقاب الحزب الدستوري القديم لصاحبه عبد العزيز الثعالبي مرحلة متقدمة جدا وتطور كبير حصل في فكر المقاومة الوطنية حيث انتقل بورقيبة بالمقاومة من مجرد المطالبة بالاستقلال واستعمال أسلوب المطالبة السلمية من خلال إرسال الوفود والقبول بالاستقلال تحت حماية المستعمر إلى المطالبة المسلحة والاستقلال الكلي ورفض الوصايا أفلا تعتبر المقاومة المسلحة وجماعة الفلاقة جهازا خاصا تابعا للحزب الدستوري وجناحه الأمني والعسكري ؟ فهل يمكن أن نقول أن بورقيبة لم يكن على علم بهذا الجهاز ؟ من المؤكد أن تسليح الشعب وتكوين مجموعات مسلحة لمقاومة المستعمر كان بعلم من الراحل بورقيبة فهل ندين اليوم الفلاقة ونلوم بورقيبة على أنه توخي المقاومة المسلحة واستعمل العنف المادي للحصول على الاستقلال ؟ وحتى بعد الاستقلال ألم يكن للحزب الدستوري ميليشيا حزبية تحت إمرة المرحوم محمد الصياح الذي أوجدها ليحمي بها الدولة من الأعداء وخصوم الدولة كما كان يردد ويقول؟ إلى جانب هذا الرأي هناك مقاربة أخرى تعتبر أنه لا يمكن تجريم السرية في ظل الحكم الاستبدادي كما لا يمكن أن نلوم استعمال العنف الثوري في ظل سلطة تستعمل العنف والقمع مع من يعارضها الرأي والخيارات وأنه من الإجحاف أن يحاكم الفكر الثوري بثقافة مرحلة الديمقراطية والحريات التي لا يمكن في ظلها أن نقبل بالسرية لذلك نقرأ في العلوم السياسية أن الديمقراطية هي النّظام الوحيد الّذي يمكن في ظلّه أن نجرم تكوين التنظيمات السرية وإدانة السعي إلى تغيير النّظام بالقوّة لأنّ الديمقراطية هي وحدها التي تسحب من النّاس كلّ تلك الحجج حيث تمكّنهم من التّنظّم العلنيّ وتحميهم من الملاحقة والسجن والقتل والتعذيب وتحمي أرزاقهم وتمكّنهم من التّعبير الحرّ والمشاركة في الانتخابات وطرح البرامج على الناس في النور والعلن وهذا يعني أن تكوين التّنظيمات السّرّية في ظلّ الاستبداد يمكن تبريره و هو نوع من الدّفاع الذاتي للمجتمع وهو خيار مشروع لا يمكن إدانته إلاّ في الأساليب العنيفة التي يستعملها ضدّ المجتمع ويتضرر منه الأفراد ولو كان العنف في تغيير الأنظمة مدانا في المطلق لكانت الثورة أوّل ما ندين. إن السؤال الذي تطرحه هذه الاشكالية هو كيف يمكن تغير الواقع والوضع المحكوم بالإستبداد؟ وكيف يمكن أن نغير نظام الحكم في ظل سلطة ومنظومة مستبدة تمنع العمل السياسي العلني والسلمي ؟ من الوارد جدا في مرحلة حالكة ومظلمة كالتي مرت بها بلدان أوروبا الشرقية التي غرقت في الاستبداد أو في الدول أمريكا اللاتينية التي أشبعت شعبها قمعا أوفي الكثير من البلدان العربية التي حكمت أنظمتها بالحديد والنار أن تفكر الكثير من التنظيمات السرية في تغيير النظام بوسائل غير سلمية لطبيعة المرحلة التي تفرض ذلك لذلك قيل إن الأنظمة الديكتاتورية لا يتم تغييرها بالورود وإنما هي بطبيعتها تفرض وسائل تغيير عنيفة ولذلك استقر الفكر السياسي على أنه لا يمكن إدانة تكوين أي تنظيم سري يسعى إلى تغيير الحكم بالدفاع عن نفسه من القمع والاضطهاد في ظل حكم استبدادي فاشي يغلق أمام الناس كل الوجوه الممكنة للتغيير السلمي ويهدد حياتهم وأرزاقهم. وهذا يعني أنه إذا كان الاستبداد يبرر تكوين التنظيمات السرية العنيفة ويسمح بانتشار الفكر المتمرد المنتج للعنف الثوري كما هي تجربة الكثير من الأحزاب الماركسية في العالم الغربي والعربي فإن التوجه الديمقراطي وتبني وتركيز أنظمة ديمقراطية حقيقية يمنعان بالضرورة تكوين مثل تلك التنظيمات ويسحب كل الحجج من الجميع والتي كانت تبرر سلوكهم في مرحلة القمع ويحمي الدولة والمجتمع من خطر التنظيمات السرية واستتباعاتها الخطيرة ومنها تكوين الأجهزة السرية والأجهزة الخاصة فالديمقراطية تمنع من أجل الوصول إلى السلطة المرور من السلمية إلى العنف وفي المقابل فإن الديمقراطية كذلك تمنع من استعمال ثقافة الحريات وفكر الديمقراطية لمحاكمة ما حصل من ممارسات في مرحلة الاستبداد ومحاسبة فكر مواجهة الديكتاتورية بعقلية اليوم .. لا يمكن بمنطق الديمقراطية أن نحاكم الممارسة الثورية التي فرضها الاستبداد و لا أن نحاكم الممارسات القديمة بثقافة وفكر الزمن الحاضر وثقافة اليوم وآليات المرحلة الديمقراطية التي نعيشها.