أتفهم أن لا يجد الرأي العام العربي و الاسلامي و الدولي ما توقعه المواطن العادي المصدوم بالجريمة من حقائق مثيرة أو اكتشافات مخابراتية تركية تضيء له ما خفي من هذه العملية المقززة التي اقترفت تحت راية التوحيد المرفرفة في علم المملكة و أتفهم الحذر السياسي الذي تحلى به رجل دولة ذو مصداقية في قامة رجب طيب أردوغان وهو يدير أزمة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات الدولية الحديث لكن الخبير بالشأن الدبلوماسي لا بد أن تكون لديه قراءة مختلفة معمقة استشرافية لخطاب الرئيس التركي يوم الثلاثاء لأنه خطاب منتظر بشغف مشروع من قبل العالم بأسره بالنظر إلى فداحة الجرم و غباء مقترفيه و مدبريه وتراكم التسريبات المتعاقبة التي لا يخلو منها الفضاء الإعلامي و الإفتراضي لأي حدث في هذا الحجم. أول ما يمكن استخلاصه من عرض الرئيس التركي هو دقة التسلسل بالدقيقة للأحداث منذ التخطيط لها قبل أيام وهو ما يؤكد صبغة القصد الجنائي و الترصد للضحية و الإيقاع به في فخ يوم الثاني من أكتوبر و إعداد كل عناصر إرتكاب الجريمة بحلول الفريق الإجرامي (و ليس الأمني) من المملكة بوسائل تنقل مختلفة بغاية التمويه ثم طبيعة تشكيل هذا الفريق الذي يضم أحد الأطباء المتخصصين في التشريح و إثبات الإتصالات المستمرة بين مركز القرار أي الرياض (في أي مستوى كان) و مسرح الجريمة أي مقر القنصلية إلى جانب تعطيل التسجيل من الكيمرات بانتزاع القرص الصلب المسجل صباح الثاني من أكتوبر ثم التصريح الرسمي الصادر عن الأبحاث السعودية بأن جثة الضحية سلمت لمتعاون محلي (أي من دولة المقر تركيا) للتصرف فيها ! كل هذه العناصر التي صدرت عن رئيس الدولة التركية تفيد بطلان ما صدرعن الجانب السعودي من يوم 2 أكتوبر إلى يوم 18 أكتوبر تاريخ الإعتراف بالجريمة . أبرز إستنتاج دبلوماسي لخطاب أردوغان هو الإقتصار على ذكر الملك السعودي وحده دون ذكر ولي عهده كما جرت عادة السلطات السعودية والسبب هو إلتزام الدولة التركية على لسان رئيسها بالأعراف الدبلوماسية التي تتيح في هذه الحالة تعاون رأس الدولة السعودية مع الدولة التركية من أجل كشف الحقائق وهذه الحقائق التي وصفها السيد أردوغان علنا بالبحث عن مرتكبي الجريمة من أسفل السلم إلى أعلاه. وهي الإشارة الأوضح إلى توقع تركيا لتحديد المسؤوليات بكامل تراتبيتها السياسية وعدم الوقوف عند عزل أحمد العسيري و سعود القحطاني و التخلي نهائيا عن تخريج الجريمة في شكل "شجار" بين جمال الخشقجي و بعض الأفراد أدى إلى خنق الضحية ثم إلى التخلص من الجثة وهو التفسير الغبي الذي تندر به الناس كأنما جمال خشقجي المثقف الملتزم و المعتدل و المسالم إرتاد أحد الملاهي الليلية و هو ثمل مع غانية من غواني المراقص ثم حصل شجار بينه و بين صعلوك من صعاليك الليل إنتهى إلى قتل غير متعمد !!! المبدأ الثاني المستخلص من خطاب الرئيس التركي وهو الأهم و الأشمل يتمثل في المطالبة بتحوير جوهري لمعاهدة (أو إتفاقية فيانا لسنة 1961) لأن الذي حصل في مقر القنصلية السعودية باسطنبول يؤكد أن كل بحث في جريمة أرتكبت داخل حرم دبلوماسي يصبح معطلا أو مستحيلا في إطار المادة 22 من الإتفاقية و التي تقول حرفيا " مادة 22 :"تتمتع مباني البعثة بالحرمة، وليس لممثلي الحكومة المعتمدين لديها الحق في دخول مباني البعثة إلا إذا وافق على ذلك رئيس البعثة.وعلى الدولة المعتمد لديها التزام خاص باتخاذ كافة الوسائل اللازمة لمنع اقتحام أو الإضرار بمباني البعثة وبصيانة أمن البعثة من الاضطراب أو من الحط من كرامتها.لا يجوز أن تكون مباني البعثة أو مفروشاتها أو كل ما يوجد فيها من أشياء أو كافة وسائل النقل عرضة للاستيلاء أو التفتيش أو الحجز لأي إجراء تنفيذي." هذا ما جاء في المادة 22 من إتفاقية فيانا و لكن ظروف 1961 ليست ظروف 2018 لأنه تأكد بأن بعض المقرات الدبلوماسية تحولت إلى مسالخ بشرية و أن بعض الحقائب الدبلوماسية التي حددت الإتفاقية محتوياتها في البند التاسع أصبحت معدة لنقل جثث الضحايا و أدوات الجريمة ! وهو ما يؤكد ضرورة المراجعة المستعجلة للإتفاقية حتى تتلاءم مع واقع جديد ليس من اليسير التكهن بأسراره و طلاسمه مع تفشي بلطجة جديدة في العلاقات الدولية و تحريف الدبلوماسية إلى عكس غاياتها النبيلة. و نذكر هنا أن الإتفاقية بدأ سنها من قبل 7 دول فقط في فيانا ذاتها سنة 1815 أي منذ زمن بعيد شعرت فيها تلك الدول (وهي أوروبية في الأساس) أن مبعوثيها ليسوا في أمان لأن بعض الطغاة قتلوا السفراء و أرسلوا رؤوسهم إلى ملوكهم ! ثم تطورت العلاقات الدولية إلى أن وصلت الدول إلى سن إتفاقية 1961 ثم أضافت إليها مواد تتعلق بحماية البيئة و الوقاية من الأوبئة و استغلال الفضاء و تطوير قانون البحار إلى غير ذلك مما طرأ على العالم من مستجدات. فالتحوير الذي دعا إليه الرئيس أردوغان هو الذي سيوفر سريعا ملاحقة الإجرام المرتكب تحت غطاء الحصانة و الذي يمنع من عقاب الجناة