يتفق أغلب أساتذة القانون الدولي منذ الأيام الأولى من زلزال إغتيال الصحفي السعودي جمال الخاشقجي على مبدإ معروف وهو أن هذا الملف كما قال الناطق باسم الحكومة الألمانية يوم الخميس الماضي هو ملف قضية غير مسبوقة بالمرة في التاريخ الحديث و الأسباب واضحة لا لبس فيها وهي أن مواطنا مدنيا ينتمي إلى جنسية سعودية دخل الى مقر قنصلية بلاده يرفرف عليها علم الدولة تقع في بلاد أجنبية لديها علاقات دبلوماسية عادية مع دولته الأم من أجل إجراء معاملة يومية عادية مثل سائر المواطنين المقيمين خارج بلدانهم ثم ثبت باعتراف سلطات البلاد صاحبة القنصلية بأن ذلك المواطن تم قتله داخل القنصلية ! و لا يهم خبراء القانون الجنائي الدولي تلك التخريحات المتعاقبة بصفة يومية لجريمة القتل و التي تؤكد لهم أن السلطات السعودية تتعثر وتتلعثم في كل بيان يصدر عنها حسب التسريبات إلا أن القانون الدولي لا يهتم بتفاصيل تلك البيانات بقدر ما يركز إهتمامه حسب بنود ميثاق محكمة الجنايات الدولية بلاهاي على نتائج البحوث الجنائية التي تجريها السلطات القضائية للدولة التي وقعت فيها الجريمة أي تركيا و الدولة التي تنتمي اليها القنصلية أي المملكة السعودية ثم تتولى النيابة العامة لمحكمة لاهاي القيام ببحوثها الخاصة بها حسب ميثاقها و التي تعتمد طبعا على كل عناصر الإدانة (أو التبرئة) التي تستنتجها المحكمة و على ضوئها تنتصب هيئتها لتنظر في عريضة الدعوى المقدمة لها من النائب العام للمحكمة الدولية و تقوم بجلب المتهمين أينما كانوا و أيا كانت مستويات مشاركتهم في الجريمة أي مثلما قال الرئيس التركي من أسفل السلم إلى أعلاه حيث التزمت الدول الموقعة على ميثاق إنشاء المحكمة يوم 19 يوليو 1998 بروما (بما فيها السعودية و تركيا) و تعهدت بتسليم من لديها من المتهمين الى المحكمة لتقع مواجهتهم بالتهم المنسوبة اليهم و سماع أقوالهم و أقوال لسان دفاعهم ثم إصدار حكمها في القضية. و حين نقول اليوم بعد ثلاثة أسابيع أن إحتمال تولي محكمة لاهاي النظر في هذه القضية حتى بعد أمد قد يطول أو يقصر فلأن كل عناصر الملف ترجح التدويل و أهمها أن الجريمة أرتكبت في مقر تحميه الحصانة الدبلوماسية لإتفاقية فيانا لعام 1961 في مخالفة خطيرة لمبدإ الحصانة و أهمها أيضا أن الأبحاث الأولية السعودية لم تكشف عن أسماء و هويات الموقوفين لديها وهو الكشف الاستعجالي و السريع المطالبة به تلك السلطات القضائية من أجل مساعدة الجانب القضائي التركي على مواصلة البحث ثم إن سر مكان الجثة لم يعرف بعد لأن التحريات المتعلقة بجثة الضحية تتوقف على وجودها وهو ما يعتبر في القانون الجنائي العادي و القانون الجنائي الدولي تعطيلا مضللا للقضاء أي إخفاء حقائق لا مناص من كشفها ! و معلوم أن إتجاه دول الإتحاد الأوروبي يميل إلى تدويل القضية ضمانا لسلامة التحقيق و إبعاد الملف عن كل التجاذبات السياسية و التزامات العلاقات الخارجية بين الدول المعنية التي يمكن أن تحيد بالملف عن مجراه النزيه و الموضوعي و المتجرد. و هنا فالقراءة في بعض بنود محكمة لاهاي تنير لنا هذه الخيارات الممكنة. جاء في ميثاق إنشاء المحكمة ما يلي:" تختص المحكمة الجنائية الدولية بمتابعة الأفراد المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية، وتعني حسب تعريف ميثاق روما، القتل أو التسبب بأذى شديد بغرض إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية إهلاكا كليا أو جزئيا والجرائم ضد الإنسانية، وهي أي فعل من الأفعال المحظورة المنصوص عليها في نظام روما، إذا ارتكب بشكل منظم وممنهج ضد مجموعة من السكان المدنيين، مثل القتل العمد والإبادة والاغتصاب والإبعاد والنقل القسري والتفرقة العنصرية والاسترقاق وجرائم الحرب تعني كل الخروقات المرتكبة بحق اتفاقية جنيف لسنة 1949، وانتهاك قوانين الحرب في نزاع مسلح دولي أو داخلي ويمكن للمحكمة أن تنظر في قضايا أشخاص متهمين بارتكاب هذه الجرائم مباشرة، أو آخرين لديهم مسؤولية غير مباشرة فيها، كالمسؤولية عن الإعداد أو التخطيط، أو مسؤولية التغطية عنها، أو مسؤولية التشجيع عليها. والمحكمة –التي يقع مقرها بمدينة لاهاي بهولندا، لكنها يمكن أن تعقد جلساتها في أي مكان آخر- هي محكمة مكملة للقضاء الوطني للدول الأعضاء فيها، وتمثل الملجأ الأخير عندما تكون هذه المحاكم غير قادرة على التحقيق مع المتهمين بالجرائم المذكورة، أو لا تريد ذلك. يمكن للدول المصادقة على المحكمة أو مجلس الأمن الدولي أن تحيل على المدعي العام قضايا تتعلق بالجرائم التي تختص المحكمة بالنظر فيها، كما يمكن له أن يبادر بفتح تحقيق في أي قضية يرى أنها تستحق ذلك. " انتهى عرض مهام المحكمة و تخصصاتها و هنا نذكر بما ورد في الميثاق من امكانية مبادرة نائبها العام بفتح تحقيق في أي قضية يرى أنها تستحق ذلك ثم الإقرار بأن المحكمة هي الملجأ الأخير عندما تكون المحاكم العادية غير قادرة على التحقيق مع المتهمين وهذا إحتمال وارد إذا ما اقتصرت بحوث القضية على القضاء السعودي وحده. نسجل أن الرئيس التركي طالب بوضوح أن يتولى قضاء تركيا البحث و الحكم لأن الجريمة أرتكبت على أرض تركية أما القضاء السعودي فهو يعتقد أنه المؤهل لهذا العمل دون سواه لأن المطلوببن ينتمون إلى جنسية سعودية! و لهذه الأسباب لم يغفل ميثاق محكمة لاهاي عن هذه الاختلافات التي يمكن أن تتطور إلى خلافات و هنا إحتمال ضياع حق الضحية جمال الخاشقجي وارد و كذلك إفلات الجناة من العقاب العادل .