اليوم هناك في تونس سؤال إشكالي وقضية محيرة ومسألة مقلقة تلامس المجال الفلاحي والقطاع الزراعي ولها رابط بالسيادة الفلاحية والأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي وهذا الإشكال وهذا القلق وهذه الحيرة هي في عدم القدرة على الإجابة على سؤال إذا كانت تونس بلدا منتجا للحليب ومصدرا له ويعرف فائضا في الانتاج نتج عنه اتلاف الكثير منه لعدم قدرة الفلاح والصناعي على خزن الكمية الزائدة والتي لا تحتاجها السوق التونسية في غياب منظومة متطورة لحفظه فكيف يمكن أن نفهم توريد كميات من الحليب من بلد أوروبي لسد النقص الحاصل لتغطية حاجيات السوق الداخلية ؟ كيف يمكن أن نقتنع أننا في حاجة إلى توريد كميات من الحليب في الوقت الذي نعلم فيه جميعا أننا بلد منتج وله فائض سنوي من مادة الحليب ؟ كيف يمكن أن نفهم أن عائدات تصدير زيت الزيتون وحدها تفوق عائدات السياحة ومع ذلك لا نولي هذا القطاع الأهمية التي يستحقها ونبقي على نفس الخيارات الاقتصادية التي تجعل من السياحة هي قاطرة الاقتصاد التونسي ؟ وكيف نفهم أن عائدات تصدير التمور والدقلة أساسا تفوق لوحدها عائدات قطاع السياحة ومع ذلك لا نفكر في تغيير أولويات منوال التنمية ولا نجعل من قطاع الفلاحة هو القاطرة للنهوض بالاقتصاد و تحقيق العائدات المالية اللازمة ؟ كيف نفهم أن مادتي زيت الزيتون والدقلة لوحدهما قد مكنا البلاد من تحسين مواردها المالية وتحقيق نسبة نمو محترمة قاربت 2% بفضل هاتين المادتين فقط ومع ذلك لا نعمل على إيلاء الفلاحة والقطاع الزراعي برمته وما يحتوي عليه من إنتاج متنوع الاهتمام الذي يستحقه لتتحول الفلاحة إلى عنصر تقدم ونهضة وازدهار على غرار الكثير من الدول الأوروبية التي تقدمت بفضل القطاع الفلاحي في غياب الموارد الطبيعية وضعف الصناعة ؟ لقد تعمدنا التعرض إلى ما يحصل لنا في مادة الحليب التي طالت أزمتها بعد ندرتها في السوق الداخلية رغم ما يعرف عنها من فائض في إنتاجها وتعمدنا كذلك التذكير بقوة وأهمية عائدات زيت الزيتون والتمور التونسية على تمويل الخزينة التونسية وعلى توفير المال اللازم لتعبئة موارد الدولة للقول بأن هناك أمور غير مفهومة في علاقة باختياراتنا الاقتصادية وسياستنا للتنمية و في علاقة بالنظرة إلى قطاع الفلاحة وهي نظرة لا ترى في هذا المجال قدرة على دفع البلاد نحو التنمية والتقدم فما لا يفهم في الفكر الاستراتيجي الاقتصادي التونسي هو هذا التجاهل لقيمة الفلاحة ولأهمية الانتاج الزراعي الذي أثبت قدرته بعد الثورة على جعل البلاد تصمد ولا تعرف نقصا في الموارد الزراعية الحيوية لعيش المواطن في الوقت الذي عرفت فيه كل القطاعات الأخرى تراجعا وانتكاسا ولولا الفلاحة التي انقذت البلاد لعرفت تونس فترات عصيبة بعد الثورة و انهيار النظام السياسي القديم .. فما هو غير مفهوم هو هذا الاصرار على تهميش الفلاحة وإهمال المجال الزراعي وهذا الاصرار على الحفاظ على نفس الخيارات الاقتصادية التي بدأت بها دولة الاستقلال انطلاقتها الأولى وهذا الاصرار على الابقاء على القطاع السياحي قاطرة الاقتصاد والرهان الذي يعول عليه لاستعادته عافيته رغم أنه قطاع اتضح اليوم أنه لم يعد قادرا أن يلعب نفس الدور الذي قام به بعد الاستقلال وحتى سنوات قليلة قبل الثورة وهو قطاع استهلك واستنفذ أغراضه وأدى ما عليه في ظرف محدد واليوم اتضح أنه لم يعد قادرا أن يقدم أكثر مما قدمه بعد أن عرف تراجعا رهيبا على المستوى العالمي وبعد أن تغيرت كل المعطيات بخصوصه وأصبح رهينة رضى الدول الغربية وبلدان المنشأ ورهن تقلبات المناخ والوضع المالي للدول المنطلق منها السياح . ما لا يفهم هو لماذا يصر من يحكمنا اليوم على عدم تطوير القطاع الفلاحي وجعله قطاعا متطورا ومتقدما من خلال تشجيع البحث العلمي الزراعي وتوفير المخابر للأبحاث الفلاحية حتى نستعيد ما فقدناه من بذور أصلية ونتخلص من البذور الهجينة والمقلدة التي نستوردها بالعملة الصعبة والتي تجعلنا في علاقة ارتباط دائمة بمن انتجها وعلاقة تبعية في خصوص غذائنا وفي عدم القدرة على تحقيق اكتفائنا الذاتي وأمننا الغذائي طالما لا نملك سيادتنا بشأن بذورنا وزراعتنا ونضطر من وراء ذلك أن نورد حتى الأدوية المصاحبة لهذه البذور التي لا نملكها ونوردها . مالا يفهم هو لماذا تصر دولتنا على تفقير الفلاحة وعلى تهميش العاملين بها وجعلها قطاعا هجينا لا يقبل عليه الشباب ولماذا نصر على عدم منحها الاعتمادات اللازمة لتطويرها والاهتمام بالأبحاث العلمية اللازمة والتغافل عن أهمية البحث العلمي في هذا المجال الحيوي والواعد والذي ثبت اليوم أنه سر نجاحنا وتفوقنا وتقدمنا فنحن شئنا أم أبينا بلد فلاحي بالأساس قبل أن نكون بلدا تجاريا او صناعيا أو بلدا يرتكز على الخدمات ؟ سئلت رئيسة حكومة ألمانيا " انجيلا ميركل " عن سر تفوق ألمانيا وعن سر ريادتها العلمية واحتلالها مرتبة متقدمة عالميا في مجال الاقتصاد فقالت السبب بسيط وهو الرؤية بعيدة المدى والاستقرار السياسي بما يعنيه من أمن وسلم اجتماعيين ودعم كبير للبحث العلمي فمسألة البحث العلمي ودعم المعرفة العلمية والقيام بالأبحاث المتواصلة في شتى المجالات ورصد الميزانيات الكبيرة للعلوم والأبحاث هي أولوية وإستراتيجية وتوجه حضاري لتحقيق الريادة والتقدم ومن دون تقدم علمي ومن دون أبحاث علمية ومن دون خيارات اقتصادية وطنية ومن دون رؤية ثاقبة لا يمكن لأي بلد أن يتقدم وبتوفر كل هذه العناصر فإن الريادة تتحقق والتقدم يحصل حتى وإن كان البلد لا يمتلك موارد طبيعية كبيرة وليست له امكانيات ومصادر طبيعية . ما لا يفهم هو لماذا هذا التراخي في مجال البحث الزراعي وهذا الخمول في تطوير الأبحاث الفلاحية وهذا التهميش لكل ما يمت بصلة إلى قطاع الفلاحة ؟ في الحقيقة إنها مسألة غير مفهومة ومحيرة أن يعلم السياسي بأن فلاحته قادرة على تحقيق انتاج وافر ومتنوع وبإمكانها أن تحسن كثيرا من وضع البلاد وتحقق ما لم تقدر على تحقيقه قطاعات أخرى وفرت لها الدولة كل الدعم السخي ومع ذلك يواصل في تجاهله للقطاع وفي المقابل يواصل في دعم مجالات أخرى ثبت أنها تراجعت ولم تعد قادرة على الافادة أكثر ؟ الاجابة المباشرة والواضحة هي أننا بلد لا يتحكم في خياراته الاقتصادية ولا يملك قراره السياسي وفاقد لسيادته على أرضه وبلد لا يزال إلى اليوم في وضعية التابع للأجنبي والمحكوم بعقلية الاستعمار الذي لم يفارقنا يوما ولا يزال يتبعنا ويتحكم في قراراتنا ويملي علينا خياراته ويسطر ويرسم سياستنا الفلاحية ويتدخل في كل مجالات حياتنا.