مواصلة لنشاطها العلمي وفي إطار نشر الفكر الإسلامي المعتدل وفي محاولة للمساهمة في حركة الاصلاح الديني التي بدأ الحديث عنها واتضح تأكدها اليوم بعد انتشار الفكر المتطرف وخروج الكثير من الشباب المتدين عن ملامح الفكر الإسلامي المتسامح القائم على البحث والعلم والعقل و الذي بنى الحضارة وقاد في يوم من الأيام العالم ، نظمت وزارة الشؤون الدينية يوما دراسيا خصصته لموضوع الخطاب الديني وضوابطه الشرعية والقانونية احتضنته مدينة العلوم صبيحة يوم الاثنين 26 نوفمبر الجاري. في هذا اللقاء الفكري الذي حضره وزير الشؤون الدينية وجمع من الإطارات الدينية وخطباء الجمعة والمهتمين بقضايا الفكر الإسلامي والشأن الديني تم الحديث عن مركزية الإنسان في الفكر والخطاب الديني الإسلامي وكيف يتم اليوم تغييب هذه القضية المحورية التي نجدها بكثافة في النص القرآني غير أن الممارسة الدينية تغيبها وتتجاهلها لصالح قضايا أخرى فمسألة أولوية الإنسان لا تلقى اليوم من العناية ما تستحقها فيما يتداول من حديث ديني فكرا وخطابا. تم الحديث عن ملامح الخطاب الديني الناجح وعن الفكر الإسلامي المستنير الذي تحتاجه المرحلة التي تمر بها البلاد وهي مرحلة دقيقة ومفصلية تحتاج إلى تأسيس خطاب ديني يستجيب لكل التحديات التي نعيشها لذلك تم التذكير بضرورة أن يلامس هذا الخطاب المنشود الواقع المعيش للناس وأن يلامس القضايا الاجتماعية ويتناول مشاكل المجتمع التونسي وهي كثيرة وتتعب الفرد المسلم فما يحصل اليوم هو أن مجتمعنا يشهد تحولات كبرى وتغيرات مستمرة وهذا يحتاج خطابا يستوعب كل هذا الواقع المتحرك الذي بات يعج بمشاكل لا تعد ولا تحصى وفي جميع المجالات من تصدع في العلاقات الأسرية وبين الأقارب وانحلال في العلاقات بين الناس ومشاكل أخرى يعرفها الشباب من مخدرات تهدد حياته وإجرام تحول إلى كابوس يؤرق الجميع وانحلال أخلاقي يهدد الإنسان في وجوده وغير ذلك من مظاهر الحيرة والضياع والتيه التي يعرفها شبابنا ومشاكل أخرى يعاني منها الناس تلامس معيشتهم التي باتت صعبة ومضنية أمام تدهور المقدرة الشرائية وتواصل غلاء الأسعار وتراجع تطبيق العدالة الاجتماعية وتخلف الدولة عن وضع سياسة اجتماعية عادلة وبرامج تنمية باتت ضرورية وكل هذه المشاكل هي اليوم مجال حزن الناس وقلقهم وتجعل الإنسان الذي كرمه الله وسخر له كل الوجود في وضعية غير مريحة وتجعله غير سعيد وفي وضعية متعبة والحال أن الدين جاء لإسعاد البشر وكان مبتغى الإسلام أن يرى الناس سعداء فما فائدة الخطاب الديني إذا كان لا يرمي إلى إعادة الثقة للإنسان ولا يسعى إلى إرجاع السعادة إليه بعد أن افتكتها منه اكراهات الحياة وهذا فعلا ما فهمه المسلمون الأوائل من تدبرهم للقرآن الكريم وفهمهم له حيث أدركوا أن بناء المجتمع الصالح يمر عبر تحقيق السعادة للناس وعن طريق إسعاد الإنسان الذي هو أحد العوامل الضرورية لبناء المجتمع وهذا الأخير لا يمكن أن يرقى ويتقدم بإنسان تعيس تكبله مشاعر الإحباط والكآبة لذلك كان الإنسان غير السعيد إنسانا غير قادر على الابداع وتقديم الإضافة والعطاء لذلك كان حديث القرآن عن الإحسان للأخر من أجل إسعاده وزرع الأمل في حياته حديث مكثف وملح قال تعالى " واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت ايمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا " النساء / 36. فكل هذه الفئات وغيرها جاء الدين لإسعادها. ما يحتاجه الخطاب الديني في راهنيته إلى جانب اعتنائه بالإنسان من حيث هو قيمة جوهرية وتوجيه كل اهتماماته لقضاياه الحياتية هو أن يكون خطابا عقلانيا وخطابا يحترم المنطق والمعقول من الأشياء وما استقر عليه الفكر العقلي فما هو منشود في الخطاب الديني المستنير والذي تحتاجه المرحلة هو أن يحترم العقل ويلتزم به وذلك في جميع مجالات الخطاب الديني الذي نتوجه به إلى الناس في مجال العقيدة من خلال إعتماد الحجج العقلية التي تقنع الناس وتفيدهم وفي مجال الأخلاق والتربية التي لا صلاح للمجتمع من دونها فهي الأساس في صلاح المجتمعات وذلك ببيان أهميتها وتأثيرها في حياة الناس وأن في ضياعها فيه ضياع للمجتمع وعدم وفي غيابها احلال للنزاعات والصراعات التي ينبذها الإسلام ويقاومها لما فيها من خطر على الانسان وحياته. وهذا الخطاب الديني الجديد الذي نعمل على تأسيسه والقائم على مركزية الإنسان وإلزامية العقل يحتاج إلى آليات تجعله يتجدد باستمرار وتمكنه من تجديد نفسه من داخله كلما دعت الحاجة إلى ذلك ومن هذه الآليات التي يحتاجها الخطاب الديني حاجته إلى الاجتهاد في القضايا الجديدة الطارئة وفي القضايا القديمة فأما ما يستحدث من أمور وما يستجد من قضايا فهذه تحتاج فقها وفكرا معاصرا ورؤية جديدة تستوعب الوافد وفق رؤية فقهية مستنيرة تعتمد على فقه المقاصد وتحقيق المصلحة وتستند إلى صحيح النصوص وما استقرت عليه المعرفة الدينية الثابتة. وأما القضايا القديمة فقد اتضح أن الكثير منها قد تم انتاجه منذ عصور خلت وهو اليوم حاضر بقوة غير أنه قد خضع لواقع لم يعد في الغالب موجودا وتحكمت فيه ثقافة عصره واكراهات واقعه التي ليست بالضرورة واقعنا اليوم لذلك فإن إعادة النظر في ما تم الاجتهاد فيه قديما ومراجعة الثقافة والمعرفة التي انتجها القدامى أمر مهم . اليوم هناك نوازل تم الاجتهاد فيها وتحتاج منا أن نعيد النظر في مضموها من أمثلة ذلك قضية العدل بين الأبناء في العطايا وهي مسألة طرحت في الفقه القديم وأساسها حديث النعمان بن البشير الشهير الذي يرويه الإمام البخاري والذي جاء فيه أنه أعطى أحد أبنائه عطية فجاء إلى رسول الله يخبره أنه أعطى إبنه عطية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هل أعطيت سائر ولدك مثل ما أعطيته ؟ قال لا فقال الرسول صلى الله عليه وسلم " اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم" هذا النص الحديثي يتحدث عن مسألة خطيرة وهي تحقيق العدل بين الأبناء في العطايا وقد فهمت قديما على معان مختلفة فمن الفقهاء من اعتبر أن العدل بين الأبناء مندوب ومستحب وبالتالي فإن الأب ليس ملزما أن يعدل بين أولاده ومن الفقهاء من اختار الوجوب في هذه القضية واليوم نحتاج أن نعيد النظر فيما نختاره من أقوال قديمة في فهم هذا الحديث بين حكم الندب وحكم الوجوب بناء على كليات الدين ومقاصد الشريعة و على ما يتطلبه الواقع الحالي وما تفرضه الظروف المعاصرة وما تقتضيه المصلحة لهذا نجد أن المتأخرين قد مالوا إلى وجوب العدل بين الأبناء في العطايا ونفس الشيء يقال عن النظرة التي يقدمها الفقه القديم عن المرأة وهي قضية تحتاج أن نراجع فيها الكثير من نصوص الفقه التي تقدم صورة سيئة عن المرأة وفيها إساءة للدين الذي كرم المرأة وبجلها لذلك نحتاج ان نعيد النظر فيما نختاره من أقوال القدامي في فهمهم أو تأويلهم للنصوص الدينية بما يتلاءم مع واقعنا وثقافتنا . طرح هذا اليوم الدراسي حول ضوابط الخطاب الديني الكثير من الأسئلة المشروعة والحارقة في الآن نفسه في علاقة بنوعية الخطاب الديني الذي نحتاجه ونريده لهذه المرحلة التي نعيشها وفي علاقة هذا الخطاب الديني بتوجهات الدولة وهل من الضروري أن يكون الخطاب الديني خادما للنظام السياسي ومعبرا عنه ومبررا لتوجهاته في علاقة بتزامن هذه الندوة مع ما أعلن عنه رئيس الجمهورية من مبادرة المساواة في الميراث وما تتضمنه من تجاوز النص الديني نحو إقرار مبدأ المساواة في قسمة تركة الميت بين الإناث و الذكور ؟ هل نحتاج اليوم إلى خطاب ديني مستنير ومعتدل ومحايد أم نريد خطابا دينيا في خدمة توجهات من يحكم ؟ هل نحتاج إلى إصلاح ديني وتجديد في الخطاب الديني خدمة للدين ومن أجل تحقيق المصالحة بين المؤمن ودينه بعد أن شوهته الجهادية المتنطعة وضيعه التدين الشعبي الفلكلوري ووظفه التدين الرسمي الذي جعل منه مجرد عادات وتقاليد وشعائر خاوية لا روح فيها ؟ هل نحتاج اليوم أن نطوع الخطاب الديني لميولات السياسي أم نحتاج إلى رؤية معاصرة للتدين تعيد للدين حياته في المجتمع وبين الناس وتجعل منه محركا للمجتمع ؟ هل نحتاج خطابا دينيا معاصرا يحقق الراحة والطمأنينة والسعادة للإنسان ويقدم له الحلول والإجابات عن أسئلته الوجودية والاجتماعية و التي من أجلها بعث الله الرسل وأنزل الكتب السماوية أم نريد خطابا دينيا جديدا يكيفه السياسي كما يشاء ويريد ويحقق به مكاسب سياسية ؟ هذه أسئلة فرضت نفسها في هذا اليوم الدراسي وفرضت الإجابة عنها ودفعت نحو التفكير العميق بضرورة البدء في عملية إصلاح ديني عميقة وعملية تجديد في الخطاب الديني الذي نريده ملائما لما تطلبه المرحلة ويستوجبه الواقع المعيش.