كان ذلك ما كتبه ونشره أخيرا السيد سالم المنصوري وقدمه الاستاذ الشاذلي القليبي صديق المترجم له وزميله في الدراسة صباح يوم السبت 8 ديسمبر2018 بقاعة الطاهر الحداد في رحاب دار الكتب الوطنية وقد امتلأت يومها بالحضور وكنت فيهم تلبية للدعوة الكريمة التي لبيتها بالقبول. اقتنيت قبل الدخول نسخة من ذلك الكتاب الذي أخذ مني عشرة أيام شدني فيها لأنه لم يكن عاديا ولم يخصص لسيرة السيد أحمد بن صالح لوحده بل كان توصيفا دقيقا لفترة من تاريخ تونس الحديثة وغطى أهم الاحداث التي عرفناها ابتداء من زمن الكفاح وانتهاء بالثورة التي نعيشها الان وقد اختلف القوم في تعريفها وبات البعض منا يسميها بثورة (البرويطة) أو بالانقلاب الذي تدخلت فيه قوى خارجية وما زالت تفعل ذلك. لقد تخللت ذلك المجلد كل المحطات التي عاشها كاتبه مثلما عشناها نحن ورجعت بِنَا الذاكرة الى دقائق الامور لنعود اليها بشوق وألم لما تخللها من تجاوزات وإحباطات أفسدت علينا النشوة التي بتنا نحنٌّ اليها بعدما انسانا نظام الحكم اللحق تلكم الأيام. كانت براعة المؤلف وإحاطته بكل الجزئيات التي أحسن وصفها ونقلها بأمانة ودقة وبأسلوب شيق جذاب قلَّ من بقي يتذوقه في هذا الزمن الرديء. لقد اشتمل الكتاب على 571 صفحة من الحجم الكبير تخللتها صور ووثائق ومراجع تؤكد ما جاء فيه من اسرار وشهادات متقاطعة أحسن الكاتب اختيارها للتدليل على جدية العمل الذي انجزه في سنوات، ومنذ أن انجذب لتجربة ذلك الرجل الذي احتار القوم بدون ان يقوى أحد على إنصافه ولعل التاريخ وحده سيتكفل بالموضوع. رأيت يومها صديق عمره الاستاذ الشاذلي القليبي كيف أحسن تقديمه بكلمات مختصرة قليلة جاء فيها بالخصوص: (ولما شاءت الأقدار ان ينتخب لخلافة الشهيد فرحات حشاد، إذ هو في طليعة قادة الرأي العام، لا يعقد أمرا دون أن يكون هو على اتفاق. وفِي هذا الصعود اللافت تكمن أسباب الانكسارات التي ستظل ملاحقة له، في سائر المناصب العالية التي أسندت اليه، والتي سيؤول به اخرها وأعلاها الى ما ليس بعده من قيام. قدره يذكر بنهاية عمالقة الاساطير اليونانية إشراقات طاغية وانكسارات محتومة. وينهي مقدمته تلك برائيه في الكتاب وكاتبه بهذه السطور: ولعل في شهادته عن الوزير أحمد بن صالح صاحب الوزارات العديدة ما يصحح ما روجته أوساط مناوئة للتجربة التعاضدية، التي اقترن بها اسم الرجل الذي زاد الاشتراكية التونسية، ألقاً، داخل البلاد وخارجها.) ذلك ما كان خافيا عنا جميعا نحن الذين عشنا معه في تلك الفترة من قريب او بعيد، لقد أخذ فيها بعقل الزعيم الحبيب بورقيبة لعدة سنين وعلى اساسها أوكل له وزارات عدة مهمة لأكثر من عشرة سنين ليتدبر فيها الامور ويسيطر على العقول سلبا أو إيجابا حسب الأشخاص والموضوع. لقد دخل للسياسة من الباب الكبير يوم كانت تؤدي للتغريب والسجون، وحضر بتلك الصفة لأول مرة نيابة عن جامعة التعليم اشغال المجلس القومي للاتحاد العام الذي انعقد بصفة استثنائية في 23 جويلية 1950للنظر في الاوضاع النقابية الدولية وتمزق الاتحاد، وبعدما تدارس الحضور علاقات المنظمة الخارجية واستعراض الظروف التي حفت بانضمامه لجامعة النقابات الحرة بعد انسلاخ عديد المنظمات منها الامريكية والإنجليزية والهولندية والبلجيكية وغيرها وبعد محاولة تهميش الاتحاد العام التونسي للشغل، عرض الامر على المؤتمر الرابع الذي أخذ قرارا بذلك وتزعم أحمد بن صالح الجناح المعارض في التصويت ولكن ذلك الموقف لم يؤثر في حشاد الذي استقطبه وإرساله ممثلا للمنظمة الدولية (السيزل) ليستفيد ويفيد. لقد تولى بعد اغتيال حشاد الأمانة العامة للاتحاد العام التونسي للشغل بطريقة ديمقراطية ولكنه أبعد منها في غيابه لما كان بالمغرب الأقصى يسعى بين أقطار المغرب الكبير للتقريب. لم يتسبب وقتها في أزمة وتقبل الوضع الجديد وواصل طريقه في النضال في المجلس التأسيسي وما يعهد له بصفته النقابية من مهام. تولي وزارة الصحة في ظروف صعبة وأبلى فيها البلاء الحسن مما دفع ببورقيبة الى إلحاق الشؤون الاجتماعية بها قبل ان يعهد له بوزارات التخطيط والاقتصاد والتجارة الخارجية والمالية والفلاحة والتربية القومية، لينتهي بعد أكثر من عقد من الزمن الى العزل والمحاكمة والتشريد بتهمة الخانية العظمى المستحدثة ويحكم علية بعشرة أعوام بالسجن والأشغال الشاقة لقضي منها ثلاثة ويحرر نفسه باللجوء للجزائر لمدة ثم للهجرة القصرية لأوروبا لعدة سنين. تلك هي مأساة ذلك الرجل العجيب الذي اختاره السيد سالم المنصوري منتصرا له ولبرنامجه الاقتصادي والاجتماعي مجازفا بمستقبله في زمن كان كل من يقترب منه يدرج في القائمة السوداء ويتعرض لكل انواع الغضب والتهميش ويحرم من ابسط حقوقه المشروعة بدون قانون. اما ما جاء في الكتاب فقد اشتمل على أربعة أقسام وهي: القسم الأول: المحنة القسم الثاني: الزمن النقابي القسم الثالث: زمن الاستقلال القسم الرابع: زمن الجمهورية لقد ابتدأ المؤلف بالمحنة وكأنه يقصد المهم من تلك المسيرة وما انتهت اليه وأنا أشاطره الاختيار وكنت عبرت عن ذلك فيما كتبته ونشرته عن السيد احمد بن صالح، اذ قلت بانه اتي قبل زمانه لذلك فشلت تجربته التي لم يتقبلها من إجهد نفسه من اجلهم وأفسدوها على أنفسهم وباتوا بذلك حلفاء لأعدائهم الطبيعيين. يذكرنا ذلك بالحال الذي نحن عليه والحنين الذي بات يسيطر على بعض العقول ولكنني أقول لهم جازما ان التاريخ لن يعود. وفِي الختان اقول خيرت ان اقتصر في تقديمي للكتاب على هذه الخواطر وتركت للقراء الحق في التعليق على مجرى الأمور واذكرهم بانه سبق لي ان كتبت عن السيد احمد بن صالح عدة فصول نشرتها بالصريح الورقية وابديت رأيي في الموضوع واعدت نشرها في كتاب سنة 2015تحت عنوان (ذكريات وال في الزمن البورقيبي) وما زلت متمسكا بها الى اليوم. وكل ذلك لن يمنعني من النصح بقراءة كتاب الزميل سالم المنصوري الذي ابدع في الكتابة والتوثيق واعترف له باني ازددت به إعجابا وفخرا وتأكدت من جديد بان في تونس كتاب ومنضالين صادقين يمكن الافتخار بهم في زمن قلت فيه الرجال.