منذ عهد روما والدول المتعاقبة على أرض إفريقية تمحو ما سبق، تحرّف السلف وتحقّره في أعين معاصريها. هذا عدا عن محاولات بعض المؤرخين في التزويق والتنميق فضلا عن التشويه والتضليل. تلك مصيبة ابتلينا بها على مرّ الأزمان وهي مصيبة مضاعفة باعتبار زخم المآثر التي طبعت الحراك الحضاري في ربوعنا والتي لو حدثت لغيرنا لأقام الدنيا ولم يقعدها، وفي البلدان الحديثة العهد بالتاريخ كثيرا ما يجعلون من الحبّة قبّة. فهم يقيمون المتاحف بالجملة والتفصيل وينشرون المجسّمات في كلّ ركن ويؤلّفون ما شاء ربّك من الكتب بل قل من المجلّدات احتفاء وانبهارا بما أتى به من قد سلف. إنّه من نافلة القول أن نذكر أنّ التاريخ يكتبه المنتصرون أو بالأحرى يسخّرون الأقلام لكتابة التاريخ ذلك هو التاريخ الرسمي أو التاريخ حسب الطلب. أمّا التاريخ المجرّد من الأهواء، وهو ليس بالأمر الهيّن ولا اليسير، فكثيرا ما لا يتوفّر إلا بعد عناء ولعلّ الكلّ يفقه لماذا تحصّن ابن خلدون بقلعة بني سلامة لكتابة أثره الخالد متخلّصا من كلّ التأثيرات جادا قدر الاستطاعة في تخليص الأخبار الحاصلة لديه من كلّ تفخيم أو تقليل، ديدنه النظر والتحقيق وهو الشعار الذي ارتضاه وبنى عليه إنجازه الذي بدا للعالم بالأمس واليوم مدهشا لأنّه قطع مع غلوّ السابقين وأنار أمام المتعاضدين لهذا العلم بكلّ ما في المعنى من ضبط للحقيقة وإيفاء بالمعلومة سبيل الرشد والصلاح. كتب ذات يوم عبد العزيز بالخوجة، وهو صاحب دراسة تعنى بالتراث القرطاجني، أنّنا كثيرا ما نختزل بعض أعلامنا في حديث متفرّد أو في طرفة. فعليسة اشتهرت بحيلتها أي أسطورة الجلد الذي مزّقته إربا إربا لتحديد مجال قرطاج، وحنبعل لا نعرفه إلا من خلال عبوره لجبال الآلب وأميلكار هو اسم ضاحية شمالية، وماغون وهو أوّل عالم في النباتات في التاريخ لا نعرفه إلا من خلال علامة تجارية لبنات الكروم. والدولة الحفصية ماذا بقي منها في الذاكرة الجماعية سوى ساحة لبيع الملابس المستعملة وهو لعمري أمر عادي بما أنّ المدينة التي أسّسها الحفصيون أضحت هي بدورها تنعت بالمدينة العتيقة. ومع ذلك، أو بالأحرى من أجل ذلك، فنحن مفتونون بها ما حيينا وألسنتنا تلهج بما كان يشدو به أبو الطيب يمتدح القاضي أبا الفضل الأنطاكي: لك يا منازل في القلوب منازل أقفرت أنت وهذا منك أواهل تخلو الديار من الظباء وعنده من كل تابعة خيال خاذل أنعم ولذ فللأمور أواخر أبدا إذا كانت لهنّ أوائل