العالم كله يعرف أن "ملك ملوك ليبيا"مهرج استعراضي، ويبدو أن رياح السياسة التي هبّت عليه قد نزعته من صنعة التهريج الاستعراضي هذه التي لا يحذقها جيدا لا فنّا ولا أداءً، ولكنه أحسن ما يحذق على كل حال. هذا المهرّج الاستعراضي غريب الأطوار كما وصفه كثير من النقاد، انحرف إذن عمّا يحذق إلى ما لا يحذق أي إلى السلطة التي تواصل على عرشها (أليس هو ملك الملوك؟) 42 سنة ولم يستفد منها بالدرس. حتى عندما وصلته كلمة السر من الشاب التونسي الشهيد محمد البوعزيزي لم يستطع أن يفكّ شيفرتها بالرغم من أنها كانت في منتهى الوضوح: ارحل قبل أن تُسْحل. لا بد أن رأسه كان وقتها على عادته يسبح في ملكوت الغيوم، وأنه قد تحجّر نهائيا مثل الآثار الإغريقية التي تنتشر في مدن ليبيا وصحرائها. فعلماء التراث يعرفون، ونحن نعرف من خلالهم، أن ليبيا تُعتبر متحفا إغريقيا من الطراز الرفيع ولا سيما عبر "البانتابوليس" أي المدن الخمس، و "التريبوليتانا" أي المدن الثلاث ومنها "أويات" وهي طرابلس اليوم. لعل هذا المركز الحضاري القديم وغيره من مواقع الآثار الحضارية التليدة قد توقف عندها العقل السياسي للقذافي وتصّلب، ومن ثم هيمنت عليه نعرة الأباطرة ومفاسد السطوة والسلطوية حتى بلغ به الانجرار إلى تاج مفتعل على رأس ملك مفتعل هو الآخر جالس فوق عرش مفبرك أيضا:"ملك ملوك إفريقيا". هكذا عاد "المهرج الاستعراضي" إلى صنعته الأولى. فاتنا أن نلاحظ أن "ملك الملوك" هذا المتلذذ بالألقاب المزيفة المتظاهر بالتقوى والعفة قد خلع على نفسه لقب "إمام المسلمين" ويريد أن يقول "المسلمين قاطبة". الحجاج بن يوسف نفسه لم يفعل فعل هذا الإمام المستحدث. وعندما نشاهد اليوم عبر شاشات التلفزيون (إلا الشاشة الليبية حيث كل شيء في ليبيا في منتهى الهدوء والسعادة والحبور) المجازر التي تأتيها كتائبه ضد الجماهير الليبية بأمر أصدره لها أمام العالم كافة وهو يصف شعبه بالجرذان والكلاب الضالة والمقمّلين ويعدهم ببحر من الدم، عندما نشاهد هذا الدم الليبي المسفوك بأمر من "إمام المسلمين" نرى مشهدا دراميا مخزيا: سفاكا يِؤم الناس في المحراب!! شيء واحد مهم جدا أفلح فيه ذاك "المهرج الاستعراضي". خطْب جليل كنا نعرفه ونحذّر منه، ولكننا نعرفه اليوم أكثر مما عرفناه في أيّ وقت مضى، وهو أن "ملك الملوك" و "إمام المسلمين" و"قائد" الجماهيرية العظمى" قد كرّس زعامته وجهده ونضاله وثروة بلاده التي يتصرف فيها وحده للذود عن حمى دولة إسرائيل، وأن هاجسه الأول هو ضمان أمنها، والتضامن المطلق مع أمريكا وحلفائها الأوروبيين. أليس هو الدرع الواقي لأوروبا وأمريكا وإسرائيل كما يزعم؟ هذا لا ندعيه، ولكنه قد اعترف به بنفسه في حديث صحفي بثته مساء أول أمس محطات التلفزة العالمية. لم نصعق ونحن نستمع إليه لأننا نعرفه، ولكننا أدركنا أننا كنا مخطئين في حقه إذ كنا لا نتصوّر أنه صريح وفصيح إلى هذه الدرجة من الغباء ما يجعله يعترف بأنه أحد أقطاب أذناب إسرائيل مستغرقا في جهاز استخباراتها، معتديا هكذا بكل وقاحة على الشعب الفلسطيني! لم نكن نعرف أنه أومأ إلى دوره هذا يوم أن نصبوه "ملك ملوك إفريقيا" في حفل سيء المحتوى والإخراج انتظم في بنغازي عندما أعلن في حفل الجلوس "موت العرب". واليوم نعرف أكثر أن بأمثاله يموت العرب، فهو أحد الذين يتآمرون على قضاياهم ويحفرون قبر العرب، وهو أيضا كما نشاهد الآن يحفر قبر الجماهير الليبية المنكوبة به، ويتابع تشييع جنائزهم بمنتهى التشفّي. ألم يصدر أوامره يوم ارتعدت فرائصه كرد فعل على قيام الثورة الشبابية على حكمه الضال: ازحفوا عليهم بيت بيت.. دار دار.. شبر شبر.. فرد فرد! فتحوّل من "قائد" و"عقيد" و"ملك الملوك" و"إمام المسلمين" إلى "بلطجي" بامتياز. بعد هذا لم يعد أحد في العرب والعجم يستغرب لماذا استبدلت جماهير الشعب العلم الأخضر الذي كان استنبطه القذافي بالعلم السابق الأصلي، علم استقلال ليبيا. لا يستغربنّ أحد ما أقدم عليه الشباب الليبي بأن رفعوا هذا العلم عاليا فوق كل مبنى وكل مرتفع، وصبغوا وجوههم بألوان هذا العلم الأصيل، فعلوا هذا وهم يرددون على مسامعه كلمة السر التي أبلغها له الشهيد محمد العزيزي ومعناها: إرحل قبل أن تُسحل. آباء جيل اليوم لا بد أنهم قد حدثوا أبناءهم أن لوطنهم تاريخا تليدا في النضال الوطني في سبيل الحرية والقيم الإنسانية، وكذلك حدثوهم عن حضارة الدولة الليبية العريقة، وعن دستور هذه الدولة وكيف يجسم حضارة ليبيا وتطلعاتها إلى الحداثة وإلى خدمة الإنسانية والقيم الإسلامية والكونية. ولا بأس أن نستعرض مع الشباب الليبي اليوم دستور بلادهم أيام كانت دولة، ذلك الدستور الذي خرّبه القذافي فجعل الدولة لا وجود فيها للدولة لأن ذلك هو ما يتناسب مع الصنم الذي يريد أن يكونه. لقد أعلن السنوسيون تشكيل الدولة الليبية "المملكة الليبية المتحدة" التي استقلت في العام 1949 وضبطوا لها دستورا متقدما نورد منه هنا للتذكير ستة مبادئ: 1- تكوين دولة ديموقراطية مستقلة ذات سيادة تؤمّن الوحدة الوطنية 2- تصون الطمأنينة الداخلية 3- تهيؤ وسائل الدفاع المشتركة 4- تكفل إقامة العدالة 5- تضمن مبادئ الحرية والمساواة والإخاء 6- ترعى الرقي الاقتصادي والاجتماعي والخير العام. ملك هذه الدولة الفتية المتقدمة فلسفة وسياسة كان محمد المهدي إدريس السنوسي قد أطاحت به المؤامرة العسكرية التي ركبها القذافي في سبتمبر العظيم وليس في محتواه أيّ عظمة، وقد كشفت الأيام للشعب الليبي الشقيق أن ذلك المحتوى المزعوم الموعود به كان فلسفة أفرغ من فؤاد أم موسى، وكان أداءً حرق البلاد والمؤسسات واليوم حرق العباد. ذلك الملك الصالح المدفون اليوم بالبقيع بالمدينة المنورة، كان بايعه الشعب ليقوده إلى بناء دولة تؤمّن الوحدة الوطنية وتصون الطمأنينة وتضمن مبادئ الحرية والمساواة والإخاء وتكفل إقامة العدالة، هذا الملك لمّا حل بتركيا بعد الإطاحة به التفت إلى ما يملك فوجد لديه سيارتي مرسديس على ملك الدولة الليبية، فسارع بإعادتهما إلى الحكومة الليبية لأنه لا يرغب في أن يتملك بما ليس ملكا له. وقارنوا هذه الأخلاق بالأخلاق السلطوية الاستبدادية التي تهيمن اليوم على أحفاد الشيخ السنوسي المجاهد الشهيد عمر المختار، وتسلبهم ثروات بلادهم، حتى جعل القذافي الجالس على عرش هذه الثروة الطائلة يسخر ضمنا من حسني مبارك وهو يدافع عنه "المسكين" الفقير المعدم الذي "لا يملك ثمن ملابسه"! هو أيضا فاشل في الدفاع عن أصدقائه.. ألم يعاتب الشعب التونسي على الإطاحة بزين العابدين بن علي بينما هو "أحسن من يحكم التونسيين" ثم عاد ليستلطف التونسيين فيصرح بأنه "مع إرادة الشعب التونسي" محذرا، (لابد لأنه ملك الملوك) من بلقنة البلاد. ولأنه يصر دائما على أداء فن الاستعراض التهريجي "البايخ" عاد ليدافع عن بن علي مصرحا "إن التونسيين يكرهون بن علي لأن زوجته طرابلسية". هي طرابلسية مثلك أنت بالذات يا ملك الملوك المفبرك، لذلك كرهناها، مثلما يكرهك أنت كل من في مخه ذرة عقل وفي مشاعره ذبذبة إنسانية.