ان الذي لا يقرأ التاريخ لا يفهم الحاضر وأبلغ كتب التاريخ تلك المذكرات التي يسجلها قادة حكموا العالم وتركوا بصماتهم على مصير البشرية خيرا او شرا ولعل بعض نكباتنا نحن العرب قادة ونخبة اننا لا نقرأ واذا قرأنا فإننا لا نعتبر كما قال احد اعدائنا. وانا واثق من ان الجيل العربي في العشرينيات والثلاثينيات لو قرأ كتاب لورنس العرب (اعمدة الحكمة السبعة) لفهم نوايا بريطانيا في اقتطاع فلسطين للشتات اليهودي ولو قرأ نفس الجيل كتاب (تيودور هرتزل) (الدولة اليهودية) لادرك خطر مخططات الصهيونية. تجول هذه الخواطر في ذهني وانا اقرأ الطبعة الثالثة المنقحة لمذكرات رئيس الولاياتالمتحدةالامريكية الجنرال دوايت ايزنهاور الذي حكم اكبر قوة على وجه الارض من سنة 1953 الى سنة 1961 وعايش الزلازل السياسية لفترة ما بعد الحرب مثل الحرب الباردة والعدوان الثلاثي على مصر وخروج الاستعمار الفرنسي من المغرب العربي واعادة شاه ايران الى عرشه بعد اجهاض ثورة مصدق والانزال العسكري في لبنان عام 1958 حين كان كميل شمعون رئيسا وتنفيذ عقيدة (فوستر دالس) لاحتواء المد الشيوعي في امريكا اللاتينية وافريقيا وآسيا... وبالنسبة لنا كعرب فإن مطالعة هذه المذكرات تكشف جوانب غامضة من السياسة الامريكية ازاءنا بل وتبصرنا بضرورة قراءة ألف حساب لاستراتيجيات القوى العظمى خاصة ونحن نقتحم عالما معولما مرتبط المصالح متشابك الازمات فمذكرات ايزنهاور التي رتبها وجمعها وعلق عليها الصحفي الامريكي المعروف (ستيفن امبروز) تكشف لنا خارطة الشرق الاوسط كما تراها واشنطن في الخمسينيات وتداعيات الثورة المصرية كما تكشف اسرار المناورات السياسية الكبرى التي اطاحت بكثير من الانظمة والرؤوس وغيرت المعادلات وقلبت التحالفات بالانشقاقات العربية والاسلامية وهشاشة توجهات الانظمة في الشرق الاوسط في الخمسينيات. يكشف (امبروز) في كتابه سرا ظل مجهولا حتى صدور مذكرات ايزنهاور وهذا السر هو ان (فوستر دالس) وزير الخارجية طلب من المخابرات المركزية الامريكية ان تعد سيناريوهات محتملة لقتل جمال عبدالناصر وفعلا تم اعداد هذه الصيغ الممكنة وعرضه(دالس) على ايزنهاور فرفضها.. ورفض الفكرة قائلا انه يستبعد ان يكون عبدالناصر وراء زعزعة المصالح الامريكية في الشرق الاوسط كان ذلك في اواخر سنة 1955 وفي اواخر تلك السنة ايضا اتجه عبدالناصر الى الولاياتالمتحدة لتسليح مصر بمبلغ سبعة وعشرين مليون دولار فهب (دالس) والكونجرس الموالي لاسرائيل لاجبار ايزنهاور على رفض الصفقة فتوجه عبدالناصر الى تشيكوسلوفاكيا التي عقد معها صفقة فاقت الصفقة الامريكية بخمس مرات وقبلت الحكومة التشيكية ان تقبض مقابل اسلحتها مقايضة بكميات من القطن المصري ولم ييأس عبدالناصر من امريكا فعرض على ايزنهاور تمويل بناء سد اسوان بالتعاون مع البنك الدولي فتم نفس الضغط الى جانب ضغط (إيدن) الذي كان يعتبر القضاء على مصر قصما حاسما لظهر العرب ورفض ايزنهاور تمويل السد العالي فالتفت عبدالناصر الى السوفييت وقد كتب ايزنهاور في مذكراته 1956 مايلي: (اني مقتنع ان عبدالناصر لن يقوم بأي حركة من اجل السلام وان العرب اصبحوا وقحين ولذلك سوف اعمل جهدي على احداث الشقاق بين عبدالناصر والملك سعود وتصاعدت تحديات عبدالناصر مهددا بتأميم القنال فتضاعف خوف امريكا وفرنسا وبريطانيا واستغلت اسرائيل التي كان يتزعمها (بن جوريون) آنذاك هذا الخوف لاثارة الغرب باسره ضد مصر ولم تنقطع تحديات عبدالناصر فأعلن في اواخر مايو ان مصر تعترف رسميا بالصين الشعبية وترفض صين (شان غاي تشاك) وتحرك (ايدن) في اتجاه الاحتلال العسكري للقنال ولمصر ان لزم الامر قائلا في مذكرة بتاريخ 27 مايو 56 موجهة الى ايزنهاور:(ان الغرب سيختنق وستنقطع عنه حنفية النفط ولايمكن ان نترك عبدالناصر يؤمم القنال ويهدد مصالحنا البحرية.. والامر يدعو الى تأديب عبدالناصر..) . وكان ايزنهاور يميل حسب المعطيات التي استقاها من (دالس) ومن المخابرات الامريكية الى عقد ندوة لايجاد حل قائلا في رسالة ابلغها (روبرت مورفي) الى (ايدن) بتاريخ 2 سبتمبر 56: (ان لدينا في الشرق الاوسط وخاصة السعودييين حلفاء أعربوا لنا عن رغبتهم في تحجيم عبدالناصر ولكنهم يرون ان عملا عسكريا في القنال لايأتي بتلك النتيجة..) . وجاء جواب (ايدن) 1956 ليذكر ايزنهاور بان بريطانيا وفرنسا تحالفتا في الحرب الاخيرة مع الولاياتالمتحدة (ولايمكن ان نترك الغرب ينهار على مراحل) . في منتصف نهار 31 اكتوبر علم ايزنهاور ان الطائرات البريطانية والفرنسية والاسرائيلية معززة في الارض بقوات ثلاثية كبرى هاجمت مصر وان عبدالناصر تمكن من غلق القنال وجمع قواته للمقاومة وكتب الرئيس الامريكي في مذكراته بان ذلك الهجوم كان مفاجأة عظمى له تعادل مفاجأة (بيرل هاربر) في ديسمبر 1941 والبقية معلومة فقد تحرك ايزنهاور وبولجانين زعيم الاتحاد السوفييتي حينذاك لانهاء العدوان واغتنم الكرملين هذا الحدث ومناخ الانتخابات الرئاسية الامريكية ليقوم بغزو المجر واحتلال عاصمته بودابست لسحق المتحررين. ويهب ايزنهاور ليستخلص العبرة من العدوان الثلاثي فيقول (انا مؤمن بأن مصالح امريكا رهينة استقرار منطقة الشرق الاوسط لأن مصلحة امريكا تتلخص في الحفاظ على حاجة العرب المستمرة للمعونة الغربية مع استعدادنا للتدخل العسكري اذا ثبت ان جزءا من هذا العالم العربي صلب عوده لدرجة تهديد اسرائيل) ثم يقول ايزنهاور تلك الحكمة التي ذهبت مذهب الامثال في الخمسينيات حين خطب امام الكنجرس يوم 3 مارس 1957 قائلا: (نحن بازاء قادة عرب محتاجين للسلاح يحكمون شعوبا محتاجة للخبز).