يُحِيل لفظُ العَتَبَة في لغتنا اليوميّة على التشائم فيُقال فلان "عَتْبَةْ" أي لا يرتجي منه خير وكلمة عتبة تدلّ على ما لا تُحمد عُقْبَاه بدون حاجة لأي نعت فيقال فلان عتبة أي عَقَبَةْ أمام كلّ ما هو مفيد فهذا اللفظ يؤدّي هذا المعنى بمفرده وبدون حاجة لنعت فهو شبيه بلفظ الغيث في الخير الذي ليس في حاجة لنعتِ النافع ليدلّ على الخير. و"العتبة" الانتخابيّة كانت محلّ معركة ساخنة في البرلمان وستعود في الأسبوع المقبل كما كانت محلّ جدال واسع في" البلاتوهات" بين رجال القانون الدستوري والمحلّلين السياسييّن وذلك في العلاقة بين هذه الكلمة والانتخابات وفحوى الخلاف هو الزيادة في هذه العتبة من 3في المائة إلى 5في المائة وباختصار شديد فالمراد من هذا الترفيع هو سيطرة الأحزاب الذي تدّعى أنّها كبيرة على قرارات مجلس النواب بعد انتخابات 2019 بدعوى تكوين كتل برلمانيّن قادرة على الحكم وأخذ القرار بدون تشرذم وهذه الفكرة هي بمثابة كلمة الحقّ الذي يراد بها الباطل إذ التشرذم في المجلس موجود لكن القضاء عليه لا يكون إلّا بحِزْمة من الإجراءات لعلّ أهمّها منع السياحة البرلمانيّة حتى تبقى موازين القوى كما أرادها الناخب صاحب السيادة أمّا الترفيع في العتبة هو بمثابة إقصاء الحساسيات الصغيرة التي تَخْلق التنوّع والخلاف في صلب البرلمان الذي يجب أن يكون صورة للتنوّع الذي عليه البلاد والعباد في هذا الظرف الانتقالي . لكن المؤسف أنّ الخلاف حول هذا الموضوع صار يحيل إلى شقين يحاول فيهما الشقّ القَوِي إقصاء الشقّ الضعيف هذا الشقّ(الضعيف) الذي يتعالى صوته في البرلمان مدافعا عن نظافة اليد ومقاوما للفساد منتصبا حارسا على ما جاء به الدستور من مبادئ وقيم حفاظا على مدنيّة تونس هو بمثابة من يصيح في واد فهذا الصياح والضوضاء تبقى ظاهرة صوتيّة إذ الأغلبيّة الفاعلة تُمَرِّرُ كلّ المشاريع التي تتماشى مع توجّهاتها بعد أن تمرّ عاصفة صياح المعارضة . وبمناسبة هذه العتبة استمعتُ إلى الأحزاب القوميّة واليساريّة والمعتدلة والاجتماعيّة الديمقراطيّة وغيرها من الحساسيات السياسيّة تتباكى على الترفيع في العتبة وتعتبره محاولة من بعض الحساسيات للتغوّل والاستفراد بالأغلبيّة البرلمانيّة لتمرير توجّهاتها وتَأسَفْتُ وأنا أستمع- إلى الصِدِيق والرحوي والثنائي "عبو" وغيرهم من المنتمين لهذه الحساسيات الأقليّة في المجلس- يتباكون متخوّفة من تغيّر العتبة وإنْهم يَتَظَاهرون بالدفاع عن الديمقراطيّة الناشئة فإنّ المتابع للساحة السياسيّة لا يصعب عليه أن يفهم أنّهم متخوفون من الإقصاء. فهذا الموقف من المعارضة الضعيفة ذكّرتني بملوك الطوائف في الأندلس حيث كان تفرقهم هو السبب الحقيقي في سقوط هذه الممالك فعوض أن يتّحدوا ويجعلوا من ضعفهم قوّة ليقفوا في وجه أعدائهم نجدهم يتباكون على مُلْك خسروه من أجل تشرذمهم وهنا أستحضر موقفا كان على كلّ الشعوب العربيّة والإسلاميّة استحضاره نظرا لتشابهه مع وضع أمّتنا اليوم كما على المعارضة التونسيّة استعابه وهو ما قالته أُمُّ أحد ملوك الطوائف لابنها وأظنّ أنّه أبو عبد الله الصغير ملك "غرناطة" الذي كان يبكي وهو يوقّع معاهدة الاستسلام مع الملك الكاتوليكي فرديناند :"ابْكِ الآن بكاء الأطفال ملكا لم تستطع أن تحافظ عليه كالرجال". أليس من الحكمة أن تحاول هذه الحساسيات من الآن أن تتجاوز خلافاتها وحساسياتها و أن تنظر للواقع بمنظار العقل وأن تفتّش عن العامل المشترك بينها لتجمع شملها وتلتقي في وحدة انتخابيّة تتجاوز بها ضعفها في الساحة الانتخابيّة وتجعل من ضعفها قوّة إذ لا شفقة ولا رحمة في السياسة فإمّا أن تكون قويّا وتصدع بصوتك الذي يكون له وزن أو تكون ضعيفا وتصدع بصوتك الذي لا يغيّر من الواقع شيء إنّ لمّ الشمل والتواجد في الساحة الانتخابيّة ضروري مهما كانت نتيجة العَتبة التي ترغب الأغلبيّة البرلمانيّة تمريرها في هذه الدورة النيابيّة المشرفة على نهايتها .وكما أنّ الأقليّة البرلمانيّة تذكّرني بملوك الطوائف فإنّ الأغلبيّة البرلمانيّة تذكّرني بملوك "الإسبان" الذين جمعوا شتاتهم تحت راية دينيّة متعصّبة ودعوا للجهاد المقدّس وهاجموا الممالك الإسلاميّة التي كانت في وضع ينطبق عليها المثل التونسي المعبّر "العَجُوزَةْ يَهِزّْ فيها الوَادْ وهي تقول عام طَهْمَةْ " أو كما قِيلَ "كالهرّ يحكي انتفاخا صولة الأسد" واليوم ونحن على أبواب انتخابات من المُمْكِن أن تُغَيَّرَ نتائجُها الأغلبيّة البرلمانيّة فهل ستتغلب هذه الأحزاب على ضعفها الناتج عن تشتّتها الذي قد يؤدّي إلى اندثارها وأنا أجزم أن لا مخرج لهذه الأحزاب من المآل الخطير الذي يترقّبها بعد انتخابات 2019 إلّا إذا اتّعظتْ بقوله تعالى "إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم". فهل ستغيّر المعارضة ما بأنفسها وتضع اليد في اليد مع كلّ الحساسات التي تؤمن بمدنيّة الدولة حتّى تُغَّرَ الأوضاعَ وتُحمي تونس من البلاء الذي ينتظرها بعد انتخابات 2019 ومن أنذر فقد أعذر.