بعثت في تونس، منذ الثورة،ما سمي بأطر ندوات فكرية،تنظم دون رقيب، وتمول من حيث لا ندري، تدعى اليها غالبا من اعتصب من الشعب حكمه، واغتنم انسياقه الى حلمه بالشغل، والحياة الكريمة، وبحبوحة عيش، في ظل حكام، مرجعيتهم التفاني في خدمة الغير، والشفافية في السلوك، والمنهجية في التصور المستقبلي، لبلاد عرفت طيلة تاريخها، التأقلم مع الزمن، والتأثير في مجراه،رغم إمكاناتها المتواضعة، وصغر حجمها،و من هؤلاء شرذمة يدعون الثقافة، ترعرعوا في ظل دولة عصرية، بناها من ضحى في سبيلها، وعمل ليلا نهارا لإعلاء كلمتها، بدون مقابل يذكر،ذهب بهم حب المسؤولية الى نسيان الاموال التي اغدقت عليهم، فتنكروا لنعمتها، واختاروا منهجا خارج ادارتها، وهو الارتماء في احضان الاجنبي، مهما كان ماتاه، أكان أوربي ام عربي، والغريب، وتلك هي مصيبة تونس، انهم أوصلوهم الى سدة الحكم، وساندوهم الى ابعد الحدود، معنويا وماليا، فلنذكر من شارك في مدينة "آكس في ضواحي مرسيليا"، و من أقيم المآدب لهم فيها، ومن رعاهم في البحث عن طريقة افتكاك السلطة من الدكتاتور بن علي وعائلته، وكان توليهم مقود البلاد، الطامة الكبرى، اذ رموا بها في الحضيض، ولا أدل من الارقامالموجودة على ما خلفته تركة "التريكا" وأزلامها،وما حصل في حكمهم من تدهور في كل المجالات،وهم اليوم يفتخرون بوضع دستور زاد الطينة بلة، بغموض مصطلحاته واختياراته التي سيكشف التاريخ طال الزمن أو قصر من كان وراءها في الخفاء، يدفع بالبلاد الى المجهول،لأمر في نفس يعقوب،ولو كانت نواياهم صادقة، لما رجعوا الى الشعب، ونظموا استفتاء حوله،وبذلك يمكن لمن تولى الحكم، ان يعتبره انجاز لامثيل له في العالم،اما التبجح بالحريات المكتبية، فيجب التمعن في مالكي الصحافة، وفي باعثي الفضائيات، ولم يبق في آخر الامر الا "فايس بوك" الذي يعجز أي نظام استخدامه لفائدته،ومرت الايام على من اغتصب الثورة، و رجعت دار لقمان الى حالها،كأتعس ما يكون، وتوالت الفرق على الحكم، وكلها غير مؤهلة له، تقودها دواليب عالمية،وتسطر لها برامجها، بدون مراعات أصولها، ولا تقدير مواردها، وفتحت ابواب الفساد على مصراعيها، و كثرت الهياكل ارضاء لحقوق الانسانوما شابهه، من مطالب، لشرعية مفقودة، انبثقت عن تكتلات ظرفية، وقع اصلاح بعضها في الانتخابات التشريعية الاخيرة، والامل ان تكتمل في الانتخابات المقبلة، ويتضح المسار بغالب ومغلوب، حتى يتبين الافق، وتنحصر المسؤولية، ليضمن حساب من أخطأ في ادارة تونس، وعبث بتاريخها، و استولى على اموالها، واثرى فيها و عشائره كذلك بدون موجب، وما الازمة التي تعيشها البلاد، والتي هي في الواقع متواصلة لحكم الدكتاتور في كل الميادين الحياتية، الا انها انتشرت بعمق، واتت على الاخضر واليابس في كل الجهات، مما اضعف الدولة، التي اصبحت عاجزة على اداء مهامها، وغابت عنها البرمجة، لاختيارات مجدية، تسد رمق المواطن الذي آمن بتونس، وبرقيها الى الافضل،والمناخ السياسي لم يساعد على بعث الطمأنينة في النقوس،وليس ملائما لحل الازمة، او حتى التخفيف من وطأتها،وتكاثر الاحزاب وتعدد الجمعيات المستقلة في ظاهرها والمحمية في باطنها من ذوي الجاه والمال،وفقدان المجتمع المدني دوره في انارة المواطن، وغياب الحوكمة الرشيدة، والشفافية المطلوبة... كل ذلك يطرح تونسنا الى اين المسار؟وحان الوقت لمن جرب الحكم، التخلي عن القيادة، لجيل المستقبل، والدعاء له بالثبات على المبدئ، والتخلي عن الحقد والضغينة،لانقاض البلاد، واعادة عزتها وكرامتها، بالعمل المثمر،،والفكر النير،انه من الواجب وقفة تأمل، لتقويم الحاصل بعد الثورة، واصلاح ما افسدته الحكومات المتواليةالتي تعد بالمآت، ولنا لدى المعهد الوطني للإحصاء المراجع الازمة، للتقدير والنقد، بكل نزاهة، حتى لانغمض العينين عن الذين لم يهتدوا الى الطريق المؤدية لرفع راية تونس، اكثر فأكثر، في سماء الامم المتقدمة، و الواجب يدعو بالتشهير بمن اغتنم الثورة للثروة، والبلوغ للحكم، وادارته بدون وعي ولا تبصر، وهم الذين وجب محاكمتهم، والتنديد بهم، مهما كان انتماؤهم الحزبي، وعندئذ وجب الرجوع للرجل المناسب، في المكان المناسب، وادارة البلاد بكل شفافية، و بأيدي مفتوحة، دون خلفيات سياسية،للسيطرة على الحكم او البحث عن حصانة للإفلات من العدالة، وما مصير الوزير الاول الفرنسي، الا دليل على العدالة التي يصبوا اليها المواطن، تتصفبالتجرد، وعدم الانحياز، ولا احد معصوم من الخطأ، والحديث عن "التريكا" وعلى الدستور الجديد، لا يمكن تقويمها الا من التونسي، وهو الذي يعيش التحدي ويبنى به مصيره، وكفانا تملق الاجانب، ولا تهمنا اعينهم، لأنهم في بلدانهم يعيشون تجارب اليمين المتطرف، ولا يجدون الحلول الملائمة لردعه، واهتمامهم بما يجري في ارضهم يفيدهم اكثر من التجني على تونس، ومحاولة التدخل في شؤونها الداخلية، وليتركوا سبيلنا، فلم نجد منهم المعونة الكافية الا في الوعود الواهية،ومصيرنا بأيدينا،ولنحمي ثورتنا، ونضع حد للسياسيين الجدد الذين لم يفلحوا في انقاض البلاد، ولا في تقييم مرضها، للبحث عن الدواء المطلوب، وما احوج الذين يريدون الخلط بين نظام الهارب بن علي، وما شيده بورقيبة وجماعته، الذين تركوا بسماتهم في جميع ميادين الحياة، ودونوا انجازاتهم في جميع الجهات، وكان على الحكام الذين تداولوا على المسؤولية، الاتعاظ بذلك، والنسيج على منواله، ولسائل ما هو المشروع الذي انجزته "التريكا" او الذين اتوا بعدهم في مسؤولية الحكم للتباهي به؟ لاشيء يذكر في هذا الباب،سوى التناحر على كرسي الحكم، وجهل الاقتصاد، والادعاء المفرط بالكفاءة، واغلبهم فاقدي السيرة الذاتية العلمية، او وقع تزويرها للضرورة،وما يحصل اليم من انزلاق في مختلف الجوانب، هو عبارة على فشل الحكام، وتعبيرا واضحا على قلة خبرتهم، والبلاد تحتاج اليوم الى الانقاض العاجل، ولن يمكن ذلك بالتكتلات الظرفية التي تزولوا مع الزمن،وقد جربت وخابت، بل البلاد تترقب برامج مدروسة، وممولة، تطرح وتناقش في كل الملتقيات والاجتماعات، وليست مشكلة "ثقافة قديمة"او "ثقافة المستعمر" كما يرويه البعض، الذين تناسوا انهم من خريجي مدارسها،وتتلمذوا على اصولها، ومارسوا المسؤوليات في صلبها، لكن المهم اليوم،ليس الصراع على منوال الحكم الذي سيؤدي الى حل الازمة، وليس الخبراء أوالمختصون في القانون الدستوري أو ممثلوا المنظمات العالمية هم الذين بيدهم الحل الامثل، بل الالتجاء الى محك التجربة، يكون الاجدر في الاختيار الافضل، والتونسيون ادرى بمشيئتهم، أكثر من غيرهم،وحتمية الرجوع اليهم عن طريقة الاستفتاء، هو الحل المرضي ،عند الاختلاف في المواقف المصيرية والدستور واعادة النظر في نواقصه من هذا الباب.