عندما عزم الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب تعيين أحد قادة المسلمين واليا على أحد أمصار العرب سأل عنه بعض الصحابة فمدحوه إلا رجلا واحدا منهم فذكره وعابه فاتجه له الخليفة الراشد رضي الله عنه بالسؤال قائلا: هل صاهرته؟ فقال الرجل لا فقال هل سافرت معه؟ فأجاب لا فقال هل شاركته في تجارة فقال لا فرد عليه عمر قائلا: إذهب فأنت لا تعرفه. هذه الحكمة طالما حضرتني حين أتذكر وجوها حبيبة وكريمة رافقتها في سنوات الجمر والصبر التي طالت لعشريتين وأكثر ونحن في منافينا بعيدا عن الوطن بالجغرافيا و قريبا من الوطن بالقلب والعقل و الكفاح و حين أدعي بأني عرفت رجلا من معدن أحمد المناعي فأنا أمتثل لحكمة الفاروق رضي الله عنه لأني لم أشارك احمد المناعي في تجارة و لكني شاركته في نضال وهي شراكة أصدق و أبقى و لأني لم أسافر معه في رحلة قصيرة فحسب بل امتدت رفقتنا في رحلة طويلة عسيرة المسالك صعبة السبل قليلة السند شحيحة الزاد حيث كنا نوفر ما يسد الرمق لأسرتينا و نتابع دراسة عيالنا بما كتب الله لنا قبل أن تنفرج كربتنا بإرادة العلي القدير فهو لا يضيع مؤمنا و لا يخذل صابرا و لا يرد طالب حق أول مرة التقيت فيها أحمد المناعي كانت في الشقة الصغيرة قريبا من ساحة (ستالينغراد) بباريس و التي يسكنها الصديق الحبيب المكني وحرمه الفاضلة سوسن الصدفي، وكان أحمد غادر تونس بعد فتح أبواب جهنم من قبل الطاغوت على إثر حملة الإعتقالات التي طالت الإسلاميين الذين شاركوا في الترشح تحت شعار حركة النهضة في قائمات مستقلة في الإنتخابات التشريعية لسنة 1989 واستقر بباريس معنا ولكن بمرارة أكبر لأنه ترك زوجته الكريمة وعياله في تونس عرضة للتنكيل والإنتقام في حين سعيت أنا ومن المنفى على ترحيل بناتي إلى الولاياتالمتحدة ورافقني أولادي إلى باريس. وبدأ أحمد يفكر في العودة إلى تونس لهذا السبب المشروع على ما أعتقد معولا على أن لا حكم صدر ضده وأنه ربما تغافل عنه النظام و اتفقت أنا و الأخ الحبيب المكني على نصيحة أحمد بألا يعود إلى بلاد غير مأمونة و إلى حاكم غير أمين لكن إرادة الله غلبت و رجع إلى تونس لكي يمتحنه الله سبحانه في دهاليز «الداخلية» بما دونه أحمد في كتاب بعد تلك المحنة بعنوان (الحديقة السرية لبن علي) و الذي قدم له الكاتب الفرنسي الكبير (جيل بيرو) وبمعجزة من معجزات الله نجا أحمد من الزبانية وعاد محفوفا بالرعاية الإلهية إلى فرنسا ثم ترافقنا في كفاح طويل ساندني هو فيه أيام إيقافي في أوت- أغسطس 1992 في محكمة (فرساي) استعدادا لتسليمي إلى الطاغوت بعد أن أعد لي «وزير العدل أنذاك » ملفا «قضائيا» يتهمني بالإرهاب وبالإختلاس! عبر أنتربول ففوجئت بأخي أحمد يسبقني للمحكمة في الصباح الباكر مع جمع غفير من الحقوقيين والشرفاء من توانسة و فرنسيين قبل أن أصلها موقوفا و محفوفا بعوني أمن مهددا بالترحيل إلى تونس مكلبشا حيث ينتظرني القتل لأن بن علي كان يتهمني أنا و محمد مزالي و أحمد بنور بأننا وراء قضية أخيه (منصف) المتهم بترويج المخدرات في فرنسا.. كما وقف معي أحمد حين دعيت لإلقاء كلمة في مؤتمر الجمعيات الإسلامية بفضاء (لوبورجيه) بباريس في ديسمبر 1992 و نالني إعلام المجاري بالشتائم و البهتان في ونالتني الملاحقات من المخابرات الفرنسية. وعشت مع أحمد أيضا مغامرات بحثنا المشترك عن جوازات سفر وكانت قمة إنتصاره الشخصي والسياسي حين وفقه الله إلى تسريب عائلته من تونس إلى الجزائر ثم إلى فرنسا حيث أكرمه الله بأهله و شد أزره بالسيدة الصالحة المناضلة أم عياله في رحلة الصبر و الجمر ثم التأم شملنا حول رفيق الكفاح الشهيد بعد ذلك علي السعيدي الذي أغتيل في تونس بعد عودته لها سنة 2001 و كنا زرناه معا في مستشفى مدينة ( إيفرو) بشمال فرنسا بعد أن تعرض لعدوان صعاليك البوليس السياسي التونسي بالعصي والخناجر. وهو عدوان تعرض له أحمد المناعي مرتين في شوارع باريس في محاولة إغتياله كما تعرض له المناضل اليساري المنذر صفر الذي تشوه وجهه بسكين و أذكر أن أحمد لم يكن يريد أن يصنف عقائديا بل يتمسك دائما بالإنحياز للحق أينما يراه و يرفض أن يكون له أعداء من أية حساسية كانوا بل هو صديق جميع المضطهدين و نصير كل الملاحقين شكل شبكة من العلاقات الدولية الحقوقية تثق فيه و ساعدتنا في محنتنا المتواصلة الطويلة و كان – و ما يزال -بحكم تكوينه وعمله كخبير أممي يتمتع بسمعة عالية وصيت رفيع لم تؤثرا على تواضعه الجم وسلوكه الأخوي و دماثة أخلاقه. وإنني أردت تسجيل هذه الكلمات رسالة محبة وتقدير لرجل من رجال تونس الذين لم أرهم يتهافتون بعد الثورة على مكسب أو حتى على عرفان فهو من ذلك المعدن الأصيل الذي خدم وطنه وأخلص لضميره بدون حساب. فجزاه الله عني وعن سواي ممن نصرهم خير الجزاء. هو إبن مدينة الوردانين لم أسمعه بعد الربيع الذي ساهمنا في قدومه يتحدث عما كابده وقاساه في زمن أصبح فيه المتسلقون يسمون أنفسهم (مناضلين) بل يطمعون في رئاسة تونس!