هي من المرات القليلة التي تتولى فيها مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات تقديم كتابا فكريا وتقترح على روادها جلسة علمية لمحاورة منجز فكري و هذا فعلا ما حصل في ندوة يوم السبت 22 جوان الجاري الذي خصصت لتقديم كتاب جديد صدر في شهر أفريل 2019 للدكتور عفيف البوني عنوانه " انسيكلوبيديا القرآن ، مصحف عثمان " عدد صفحاته 537 صفحة صادر عن الدار المغاربية للطباعة وهو كتاب يندرج ضمن الكتب التي تتناول تاريخ الأفكار وتاريخ الأديان والحضارات ومضمونه عرض مفصل للمعاني والمفاهيم والأماكن وأسماء الشخصيات التي تناولها القرآن والوقائع والأحداث التاريخية التي جاء ذكرها في مصحف عثمان وكذلك الأمثال والقصص القرآني أو كما يسميها المؤلف الأقاويل والأساطير القرآنية التي قد تكون قد حصلت أو أنها لم تحصل ومما يفترض الوحي حدوثه في المستقبل غير المنظور من أحداث وهي حسب الكاتب ظواهر غريبة أسهب القرآن في تكرار ذكرها غير أنها ظواهر من وجهة نظر الكاتب ليست من الطبيعة ومما لا يقبله العقل العلمي. فدائرة المعارف هذه التي يقدمها عفيف البوني هي قراءة جديدة ومحينة للقرآن ومحاولة لإعادة الفهم والتفسير من خارج كل الأفهام القديمة والمعاصرة التي تناولت النص القرآني حيث يعتبر الكاتب أن كل ما كتب من تفاسير حول القرآن يشبه بعضه بعضا ولا يضيف جديدا للوحي لذلك كانت مهمة الكتاب تقديم تفسير جديد ومعنى مختلفا عن كل ما كتب قديما وحديثا فالكتاب من هذه الناحية دعوة للمسلم وغير المسلم و للمتدين وغير المتدين أن يتعامل مع الوحي الالهي الذي انتهى مع الخليفة الثالث عثمان بن عفان في مصحف واحد بعد عملية التجميع التي حصلت في عهده والتي أدت إلى حرق كل المصاحب الأخرى التي كانت متفرقة بين الصحابة والاكتفاء بواحد سمي بمصحف عثمان نسبة للخليقة الثالث الذي تعهد بعملية الجمع ، فالكتاب دعوة إلى أن يتم التعامل مع الوحي مباشرة ومن دون تأثير أو توجيه من التفسيرات التي رافقت النص الأصلي لعقود من الزمن مقترحا منهجية وحيدة وهي فهم القرآن وتحليله انطلاقا من التفسير اللغوي والسياق التاريخي الذي حكم نزول الآيات . فالكتاب إذن هو معجم علمي ضخم تناول أغلب المصطلحات والألفاظ المفاتيح لفهم وتدبر القرآن الكريم من وجهة نظر المثقف والمفكر وليس من منظور المؤمن ورجل الدين وبالاعتماد على منجز العلم الحديث فيما وصل إليه من حقائق ومقارنتها بما تحدث عنه النص القرآني بما يعني أن الكاتب قد تولى وعلى مدار سنوات طويلة استغرقت 23 سنة من البحث والتفكير والمراجعات والإطلاع والنقاش تحليل القرآن كوثيقة علمية أو كنص قديم حوى معارف وأفكارا وأحداثا دقق الدكتور عفيف البوني النظر فيها وفق ما توصل إليه من معرفة علمية حديثة مستعينا باللغة العربية من خلال معجم لسان العرب أقرب معجم للغة التي نزل بها القرآن مع مقارنتها بمعجم لغات أخرى كالسريالية والآرامية وغرهما للتثبت من أصل الألفاظ التي جاءت في القرآن وعلاقتها باللغة العربية ومتأثرا بما فعله المفكر الفرنسي " ديدرو " في تأليفه لدائرة المعارف الفرنسية ومستحضرا الثورة الدينية التي أحدثها رجل الدين مارتن لوثر ( 1483 / 1546 ) في الفكر المسيحي وتأسيسه المذهب البروتستانتي الذي خرج به عن الكثير من المعتقدات المسيحية للذهب الكاثوليكي والذي يعتبر حركة احتجاجية حررت العقل الأوروبي المتدين من فكر الكنيسة التقليدي. هذا عن بعض خلفيات الكتاب وغاياته أما عن محتواها ومضمونها فإن ما سمعناه من الدكتور عفيف البوني في هذه الندوة الكثير منه صادم ومستفز للإيمان وللقناعات التي يؤمن بها الكثير من الناس خاصة فيما يتعلق بإنكار المؤلف أن يكون القرآن حاويا لوحدة موضوع ووحدة منهج ومن أن القرآن هو وثيقة غير ملزمة اليوم للباحث وهي نص تاريخي قديم تضمن الكثير من المعارف غير الصحيحة إذا ما اخضعناها إلى منجزات العلم الحديث وبه حديث عن كائنات أسطورية مورفيولوجية لا يقبل بها العلم كالحديث عن الملائكة وعن الشيطان وتصوير الوجود صراع بين الله والشيطان وأن الإنسان في خضم هذا الصراع يعيش مأساته وهو ضحية هذا النزاع بين قوتين وأن القرآن الذي بين أيدينا و المنسوب إلى الخليفة عثمان بن عفان قد تم تجميعه في نسخة واحدة هو عبارة عن مجموعة نسخ كانت مبعثرة ومتناثرة ومفرقة قام هذا الأخير بجمعها وهي تحتوي على الكثير من الاخطاء النحوية التي تتعارض مع قواعد النحو العربي على غرار قوله تعلى " قالوا إن هذان لساحران " طه / 63 في حين أن القاعدة النحوية توجب أن تكتب الآية كما يلي " إن هاذين لساحران " وقد أحصى هذه الأخطاء الباحث سامي الديب وانتهى إلى وجود حوالي 2500 خطأ بين أخطاء نحوية ولغوية وإنشائية هذا فضلا عن وجود أخطاء في الرسم مثل كلمة " نعمة " التي كتبت مفتوحة في مصحف عثمان " نعمت " والحال أنه يجب أن تكتب مغلقة. ما أراد قوله الكاتب في هذه الموسوعة العلمية عن الأعلام الدينية وأسماء الأماكن والمواقع التي جاء ذكرها في القرآن الكريم وكل الرموز والدينية و القصص القرآني وكل الأحداث التي تردد ذكرها بكثافة والتي شكلت المخيال والذهنية العامة للمسلمين بل أضحت من الايمان والقناعات الراسخة التي لا يرتقي إليها أدنى شك هو أن المجتمعات الإنسانية اليوم لم تعد في حاجة إلى النبوءات والأنبياء و الفقهاء وإلى نصوص جديدة تفسر النصوص المقدسة و تضع أحكاما وقيما ومعايير قد مضى عليها أربعة عشرة قرنا من الزمن. يقول الدكتور عفيف البوني " لقد انتهيت في هذه القراءة إلى قناعة شخصية مفادها أنه لا يمكن التوفيق بين الدين والعلم فإما أن نؤمن بالعلم الحديث ومنجزاته ونرتب حياتنا وفقه وإما أن نؤمن بالنصوص المقدسة التي لم تعد صالحة لعصرنا ولكن يؤمن بها المؤمنون .. لقد انتهيت إلى قناعة وهي أن كل الحديث عن الاجتهاد في النص الديني وكل دعاوي الاصلاح الديني وكل دعوات التوفيق بين الدين والعلم هي دعوات تلفيقية لأنه يوجد في النصوص المقدسة ما يتناقض مع العلم والعقل والتطور ومع قيم وروح العصر مما لا يقبل منطق الاجتهاد أو الاصلاح أو التوفيق بين صحيح العلم والخاطئ من الدين وحيث أنه من غير الوارد حذف أجزاء من النصوص المقدسة ولا الاستمرار في العمل بمضمونها فإنه لا يوجد حل من داخل النص الديني وإنما الحل يوجد من خارج النص وبالخروج عليه من أجل الإنسان والحياة وحضارة العصر وأن الأديان قد أوجدها الانسان من أجل الانسان في الماضي ولم يوجد الانسان من أجل الاديان ومن أجل ان تتحكم فيه ..." ما يمكن استنتاجه بعد الاستماع إلى هذه المحاضرة حول الكتاب الجديد للدكتور عفيف البوني هو أن هذا المنجز الفكري هو من الأعمال الفكرية التي تستحق وتحتاج أن نتوقف عندها فالكتاب ليس من الكتب السيارة والتي يمكن للقارئ أن يمر عليه مر الكرام من دون محاورة و مناقشة على اعتبار وأن الكثير من القضايا المثارة فيه تحتاج نقاشا مستفيضا وتقريبا كل القضايا التي طرحت في هذا الكتاب تحتاج إلى مقالة خاصة بها من ذلك قضية الوحي وعلاقته بعملية التجميع التي حصلت في زمن الخليفة عثمان بن عفان في علاقة بما صرح به الكاتب من أن القرآن الذي بين يدينا اليوم ليس هو القرآن الأول في زمن التنزيل وإنما هو نسخة متأخرة عن نزول الوحي تم الاتفاق حولها بعد عملية الجمع التي حصلت في زمن متأخر عن وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وباجتهاد من الخليفة عثمان وبعد حرق كل النسخ الأخرى وهي قضية وإن أثارها صاحب " انسيكلوبيديا القرآن " فإنها شبهة قديمة تعاد اليوم كان قد أثارها قديما المستشرقون و تمت معالجتها والرد عليها شأنها شأن الكثير من الأسئلة التي يطرحها الكتاب كقضية الأخطاء النحوية والإنشائية واللغوية التي يقال أن القرآن قد اشتمل عليها وهي مواقف تم الرد عليها هي الأخرى لا يتسع المقال للتعرض إليها لأن غايتنا من هذه التغطية هو استعراض ما جاء في المحاضرة وكما تم الرد على الكثير من الآراء التي ذكرها المؤلف عن الرموز الدينية كاعتباره أن شخصية النبي إبراهيم عليه السلام هي شخصية وهمية لا وجود لها حقيقة وإنما هي من صنع الكتب المقدسة والحال أنها من أكثر الشخصيات شهرة في التاريخ ومن الشخصيات التي اتفقت حولها الأديان والشخصية التي لا يرتقي إليها الشك ومع ذلك فإن الدكتور عفيف البوني ينفي وجودها ودليله في ذلك أن أنها شخصية لا تذكر إلا في التوراة القديمة وفي القرآن فقط و لا نجد لها ذكر في كل المصادر التاريخية القديمة ولا توجد أية إشارة للنبي إبراهيم في التراث العراقي القديم بما يعني انها شخصية من اختلاق النصوص الدينية التي هي ليست نصوصا علميا يمكن الوثوق بها . في المحصلة فإن الكتاب بمقدمته ومضمونه مهم جدا وهو يثير الفضول للعلم والمعرفة ويدفع نحو إعادة القراءة للقرآن بعين مختلفة عن العين التي تتعامل مع الذكر الحكيم من منطلق التلاوة لا غير.