باسم الله الرحمان الرحيم " تبارك الذي بيده الملك وهو على كلّ شيء قدير. الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور". أيّها الملأ الكريم، لقد عاش الرجل الذي نجتمع اليوم بسببه بعد انقضاء أربعين يوما من التحاقه بالرفيق الأعلى، عمرا مديدا نذر جلّه في خدمة المجموعة البشرية داخل الوطن وخارجه. وإنّه ليكف الواحد منا النظر إلى مسيرة الفقيد الحافلة والمجيدة في آن، يتبيّن أنه من طينة الأعلام الذين وشّحوا معيننا الذي لا ينضب. فالأستاذ زكرياء بن مصطفى الدكتور في علوم الطبيعة بفضل أطروحته المرجع عن جراد البرّ راوح في فترة دراسته بين مؤسسات قد تبدو لأوّل وهلة متباينة، ولعلّه من القلائل الأفذاذ في مجال تحصيل العلوم والمعارف من معهد كرنوا وجامع الزيتونة والخلدونية وجامعة دمشق وجامعة مرسيليا، ثمّ بعد فترة وجيزة والحق يقال في مجال التدريس وفترة أطول في تركيز معهد علوم البحار بصلامبو استنجبه مؤسّس الدولة الحديثة الحبيب بورقيبة للاضطلاع بمسؤوليات جسام في دواليب الدولة على اختلاف مراميها: واليا على قابس ثمّ على صفاقس فمديرا عاما للأمن فمديرا للتعليم الفلاحي ثمّ رئيسا لبلدية تونس فوزيرا للثقافة ... ومن مآثره فيها تأسيسه لوكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية سنة 1988 ولقد ناله ما ناله من عطف من لدن الرئيس بورقيبة الذي كان ينتقي من منظمة الكشافة التونسية - والقائد زكرياء من أبرز عناصرها في فترة الكفاح الوطني وفي عهد الاستقلال - أهمّ روّادها لما عهد لديهم ولدى المناضلين الخلّص في سائر المنظمات الوطنية من عزم وحزم. إثر ذلك أي في نهاية هذا المطاف النضالي المستميت لم يركن سي زكرياء إلى الراحة بل آل على نفسه أن يقضي الثلث الأخير من عمره لقضيّة اعتبرها منذ صباه قضيّته الأولى وهي الذود عن الأصول الوراثية التونسية والسعي للمحافظة على ما تزخر به أرضنا الطيبة والضاربة في التاريخ، ولذلك نراه إثر تأسيسه لأوّل جمعيّة بيئية في بلدنا عام 1971 يبعث للوجود في أواسط التسعينات جمعية معالم ومواقع ويختار لها مقرا دار آل بن عاشور بنهج الباشا أي في قلب قلب مدينة تونس الذي يعدّ من أبنائها المرموقين ورث عن أبيه الرشيد أحد مؤسسي الخلدونية والرشيدية حبّا لا نظير له للمحروسة عاصمة الحفصيين منذ أبي زكرياء. لقد غادر دفة الجمعية بعد عقدين من العمر واستنجب بدوره عالما متيّما هو الآخر بمواقع تونس ومعالمها لمواصلة المسيرة وهو الدكتور عبد العزيز الدولاتلي. ومن مآثر الرئيس المؤسس هو بعث مجلة تحمل اسم الجمعيّة وفي نظري وربّما نظر الكثير منّا تعدّ بعد هذا الزخم والتراكم منذ صدورها مدوّنة مرجعية بالنسبة للباحثين في تاريخنا القديم والمعاصر. إنّ خير ما نجازي به علمنا الفذّ - بعد أن كنّا بالاشتراك مع بلدية تونس نظّمنا له بحضوره في سنة 2017 يوما اعتبرناه لمسة وفاء وعرفان- هو تخصيص جائزة سنويّة تحمل اسمه لغاية المحافظة على التراث. وإننا على يقين أنّ هذا ليس بالعزيز على أهل الحلّ والعقد في بلاد أحبّها سي زكريّاء إلى آخر رمق من حياته. رحمك الله يا قائدنا ومعلّمنا وأسكنك فراديس جنانه وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.