خلال تدخله بإحدى الإذاعات الخاصة لتقديم توضيحات حول التخوفات التي يبديها بعض الفلاحين من عملية اتلاف صابة القمح التي لم يتسن إلى حد الآن تجميعها بمراكز التجميع بسبب الأمطار التي نزلت في الأيام الأخيرة ، أوضح المدير العام لديوان الحبوب السيد توفيق السعيدي بأن صابة القمح هذا العام والتي وصفت بالقياسية لا يمكن أن تحقق الاكتفاء الذاتي من مادة القمح وكل ما يمكن أن تحققه هو أنها زادت في المدة الزمنية للاستهلاك الداخلي من دون أن تمنعنا من التوريد الاضطراري لتوفير النقص الحاصل بين الانتاج المحلي وحاجيات البلاد. وأضاف بأن الاستهلاك الشهري من القمح الصلب وفق صابة هذا العام والذي يستعمل في صناعة مادة السميد والمقرونة والكسكسي لا يكفي لأكثر من 8 أو 9 أشهر فقط وأن الاستهلاك الشهري من القمح اللين والذي يستعمل لإنتاج مادة الفارينة التي نحتاج إليها في صناعة الخبز والمرطبات لا تكفي لأكثر من شهر استهلاك أما حبوب الشعير الذي نحتاجه لصناعة مادة العلف فإنه حسب صابة هذا العام فإن الكمية المجمعة لا تكفي لأكثر من 4 أو 5 أشهر وكل هذه المعطيات التي تتحدث عن الصابة القياسية لهذه السنة من مادة القمح رغم الصعوبات التي تعرفها في عملية التجميع والإتلاف المتوقع لها لفقدان سياسة واضحة لاستيعاب كل الانتاج الحاصل بسبب عدم توفر مراكز تجميع بالقدر الكافي. نتيجة ذلك أننا لا يمكن أن نحقق الاكتفاء الذاتي من مادة القمح من خلال الكمية التي تمكن الديوان من تجميعها إلى حد الآن وهذه الحقيقة تجرنا إلى الحديث عن ضرورة توريد الكميات الناقصة وخاصة من مادة القمح اللين لتزويد السوق الداخلية بمادة الفارينة المتوقف عليها صناعة الخبز . إن هذه المعلومات التي قدمها المدير العام لديوان الحبوب عن حقيقة وضعنا الفلاحي في جانبه المتعلق بمادة الحبوب على أهميتها إلا أنها تكتسي خطورة كبيرة في علاقة بأمننا الغذائي وتحقيق الاكتفاء الذاتي الذي يغنينا عن التوريد وإهدار كميات هامة من العملة الصعبة وهي كذلك معلومات تحتاج منا وقفات عديدة لإعادة النظر في كامل السياسة الفلاحية المنتهجة والتفكير في مراجعة لكامل منظومة القمح التي تشكو ضعفا فادحا في العديد من حلقاتها بدءا بالمساحات المخصصة للزراعة مرورا بالبذور المستوردة و انتهاء بالحصاد وصعوبات التجميع والمخاطر الموجودة من حيث تعرضها للحرائق وإتلاف جزء هام من الانتاج لعدم قدرة الحكومة على توفير مراكز للتجميع . وهذا يعني أنه لدينا اليوم مشكلة كبرى في موضوع الفلاحة ومشكلة أكبر في السياسات المتبعة من قبل كل الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال وإلى الآن في عدم الاهتمام بهذا القطاع الاستراتيجي في نهضة البلاد وبناء اقتصاد قوي يقوم على الفلاحة وعلى الصناعات المرتبطة بها . لقد اتضح اليوم وبعد كل الفشل في إدارة الملف الفلاحي وتكرر نفس الاخطاء في علاقة بإتلاف الفائض في الانتاج وغياب الرؤية في المحافظة على الانتاج الزراعي الذي يعود بالنفع على المواطن بعد اتلاف الفائض من الحليب والبطاطا والطماطم واليوم اتلاف فائض الحبوب ليحصل النقص في الكمية التي نحتاجها للاستهلاك السنوي الذي يدفع إلى التوريد الاضطراري. يعتبر عبد المجيد الزار رئيس الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري أن ما حصل من إلقاء لكميات كبيرة من القمح على قارعة الطريق لعدم توفر مراكز تجميع قادرة على استيعاب الفائض في الانتاج الذي تحقق هذا العام هو دليل على فشل السياسات الحكومية في النهوض بقطاع الفلاحة وتهميش الفلاحة وعدم اعطاء هذا المجال ما يستحقه من العناية على اهميته في تحقيق الازدهار الاقتصادي لقد اتضح اليوم أن تونس لا يمكن ان تكون بلدا صناعيا ينتج صناعات ثقيلة ولكن يمكن أن يكون بلدا متقدما من خلال الفلاحة وما يربط بها من صناعات تحويلية فالفلاحة اليوم أصبحت علما وتكنولوجيا وتقنيات ولم تعد مجالا يقوم على الفلاحة العائلية وباستعمال الوسائل التقليدية ولا على التشغيل الهش والموسمي أو الظرفي . لقد اتضح اليوم أنه من الضروري أن نغير نظرتنا للأمور وأن نعطي الفلاحة أهمية أكبير وأن نغير الأوليات والخيارات لتتحول الفلاحة إلى قاطرة الاقتصاد بدل السياحة وقطاع الخدمات والصناعة المتعثرة وتصبح القطاع المركزي والأساسي لمنوال التنمية البديل وللرؤية الاقتصادية المستقبلية وهذا يتطلب أن ترفع الدولة شعار " الفلاحة هي الحل " لبناء اقتصاد قوي وأن يكون هذا الشعار في برامج الأحزاب السياسية ويتطلب كذلك أن نرسم سياسة فلاحية جديدة تقوم على التمدد الجغرافي في النشاط الزراعي والتوسع في المساحات المزروعة فمن غير المعقول أن لا نستغل مساحات أكبر في الانتاج الزراعي وأن يبقى النشاط الفلاحي في حدود مساحات محدودة لا يمكن تجاوزها حيث اتضح أن 10% من الأراضي السقوية توفر لنا حوالي 30 % من الانتاج الفلاحي واليوم المطلوب تغيير النظرة لتصبح 90 % من أراضينا سقوية لتوفير انتاج أكبر نحتاجه في تركيز صناعات تحولية قادرة على جلب الاستثمار الفلاحي وتوفير مواطن شغل جديدة بعد أن تتغير النظرة للعمل الفلاحي الذي يعرف عزوفا عن الاقبال عليه من طرف الشباب الذي لم يعد يستهويه العمل في الفلاحة بالظروف التي هي عليها . لقد اتضح اليوم أنه يمكن أن نتقدم وأن نبني اقتصادا قويا من خلال الفلاحة وأن نحقق أمننا الغذائي ونحقق اكتفائنا الذاتي من المواد الفلاحية التي لا تحقق وفرة في الانتاج وأن نستغني عن التوريد الغذائي الذي يرهق الميزانية العامة ويجعلنا في تبعية غذائية دائمة فقط لو تتوفر الإرادة السياسية الصادقة و القناعة بقيمة وأهمية الفلاحة في التنمية والتقدم وأن نقتنع بأنه حان الوقت أن نغير الخيارات التنموية وأن نراهن على الفلاحة لبناء منوال تنموي جديد واقتصاد متقدم قادر على تحقيق النقلة النوعية للبلاد و توفير مواطن الشغل التي نحتاجها لامتصاص البطالة في صفوف الشباب. وإذا لم يتحقق ذلك فسوف تستمر المعاناة ثنائية من نقص الانتاج وفائض الانتاج التي تجعلنا نراوح مكاننا ولا نتقدم .