طلعت علينا التلفزة التونسية ليلة البارحة وما قبلها بمجموعة من المترشحين لرئاسة الجمهورية وقوفا، في ثوب جديد وكأنه مهرجانا لم نكن نحلم به، لولا تلك الثورة المباركة التي يحلو للبعض بتسميتها بثورة (البرويطة) التي انطلقت ذات يوم صدفة من سيدي بوزيد بعدما أحرق شاب بدنه بالنار احتجاجا. لا اريد الدخول بكم في نقاش لا فائدة منه، قد يضيع الفكرة، ويصب في صالح مرضى العهد الماضي الذين لم يقدروا على التخلص منه، وبالرغم مما أصبحوا عليه من حرية وامن وامان وحماية لصيقة، انهم باتوا يأكلون الغلة ويسبون الملة. اما انا فقد رأيت تونس الجديدة في تلك الليالي المجيدة، مثلما رآها غيري، تعيش في مهرجان انتخابي لم ينعم به غيرنا في أي بلد عربي من الشرق الى الغرب. ولم يكتف البعض من تلك البلدان بالفرجة، بل أخذ بعضهم يعمل على محاولة افساد التجربة الديمقراطية التي دخلتها تونس بجد وحزم، بدون ان تلتفت للمال الفاسد الذي بات يَصْب في حسابات بقايا مرضى العهد السابق وكأنه ماء يسكب في رمال الصحراء. لقد اخترت عنوانا المستفزا لمقالي كرسالة مشفرة لمن بقي يشيد بالعهد الماضي، ويكيل الاساءة لثورة نظيفة خلصته من عقاله بدون ان يحمد الله عما لقيه من تجاوز عن سيئات وحظوة. لقد سمحت له الثورة حتى بالترشح لأعلى سلطة في الدولة، وهي رئاسة الجمهورية، بل مكنته من حماية أمنية، لتسهر على حريته وتحميه اثناء مباشرته لحملته الانتخابية، ولكنه لم ينس ما كان عليه في زمن التجمع المنحل قضائيا، لما كان مكبوتا لا يسمح له الابذكر وشكر ولي النعم والسير بين المسامير سكوتا. لقد نسي أكثرهم ما كان يجري من خرق للدستور ومحسوبية وسوء تصرف وإفراغ للخزينة العمومية وإفساد للأخلاق وهتك للحرمات وتطويع للقضاء وفساد في التعليم وانتشار للمخدرات وتجارة موازية. كانت تونس وقتها ضيعة خاصة لصاحب الامر والنهي ولعائلته الموسعة ومن لف لفها من الانتهازيين الذين لم يتركوا شيئا الا افسدوه. لقد كانت ثورة الحرية والكرامة رحيمة ومتسامحة مع الجميع، ولم تستثن أحدا الا من استثنى نفسه، ومكنت الجميع من العيش في عزة وكرامة، الى درجة ان تجرأ البعض وترشح لأعلى الخطط في الدولة، وما زال يحن للماضي، وكثيرا ما يثير الاشمئزاز بتصريحاته المشينة، إنها لم تقابله بالمثل ومكنته من الظهور مع غيره من الشرفاء في ذلك المشهد السريالي الذي عاشته تونس كلها لثلاث ليال دوخت الملاحظين وزادت تونس الثورة احتراما. لم يكن ذلك بالغريب على ثورتنا النظيفة التي جاءت بالحرية والكرامة والعدالة والمساواة، وفتحت الطريق للجميع بدون استثناء او تمييز، وتحملت نكران الجميل، فكانت بذلك مثلما جاء به الاسلام الذي خلص البشرية من العقلية الجاهلية، ليستفيد منه عتاتها أكثر مما استفاد منه المؤمنون الصادقون المبشرين بالجنة. يذكرني ذلك أيضا بالثورة الفرنسية التي لم يستقر امرها الا بعد نحو قرنين، وعادت خلالهما الملكية العسكر وحكم المديرين واخيرا استقرت وباتت عقيدة لا يمكن لاحد ان يؤثر فيها. وختاما اقول باني رأيت مثلما رأى غيري كيف باتت تونس يتناظر فيها المترشحون مباشرة على الهواء وعلى شاشات التلفزة ويقف المتقدمون لرئاسة الجمهورية بالتساوي، بالرغم مما بقي في البعض منهم من حنين، ولا حول ولا قوة الا لله رب العالمين تونس في 9 سبتمبر 2019