انطلقت هيئات مستقلة جديدة جاء بها الدستور، فهللنا وكبرنا و ا ستبشرنا لبعثها، لأننا كنا نظن انها تعمل "على دعم الديمقراطية"، ولها صلاحيات تتمتع بها ك"الشخصية القانونية والاستقلالية الادارية والمالية"، فدفعنا ثمن الكلفة غاليا، و كانت ظروفنا عصيبة، ومعيشتنا اقل ما يقال فيها انها لم تعد تجابه غلو الاسعار، ولا الحاجيات الاكيدة للمعاش، في نطاق الشرعية والكرامة، ذلك للمواطن المتحصل على شغل، فما بالك بالعاطل عن العمل، وفاقد القوت، فما هو ذنبه في سوء تصرف المسؤول، او افلاس المؤسسة، او ضعف درجة النمو، او رهن البلاد لدى المؤسسات المالية العالمية؟ وقد جربت هاته التجربة الاخيرة في اواخر الثمانيات، وادت الى الوبال، وازدياد الفقر، وتدهور مردود الادارة، وما هي اذا مسؤولية الناخب في كتابة نصوص غير مطابقة للواقع، أو غير متكيفة ومقتضيات الحياة؟ لكن هاته الهيئات من واجبها "ان ترفع تقريرا سنويا يناقش بالنسبة الى كل هيئة في جلسة عامة مهيأة للغرض" والسؤال المطروح اين نحن من الواجبات المرسومة بالدستور لكل الهيئات التي وقع بعثها، بإرادة قوية من الاحزاب الحاكمة "التريكا" آنذاك، تحت غشاء بناء الديمقراطية وما تابعها؟ ولو كان ذلك كذلك لما عرض الدستور على الافتاء حتى يكون نابعا من الشعب، وقد نادينا بذلك في اوانه، ولم نجد الاذان الصاغية، ولا الرؤى المستقبلية، بل كانت الاحزاب تنادي بالغلبة، وتتقاسم الكراسي، وتنعم بالمنح المرصودة للمناصب جهرا و خفية، فتوالت على البلاد مئات من الوزراء والمستشارين، وأغلبهم غير مؤهل لتحمل مسؤولية القيادة، ونتيجة ذلك ما وصلت اليه البلاد من انحطاط في موازينها، وتدخل الاجنبي في ديارها، وفقدان شهداء، عند ربهم يرزقون، قضوا نحبهم فداء للوطن، وكذلك شباب في خيرة عمره دفع به للتضحية والمغامرة والحرب، وهي متاهات بعيدة عن تكوينه وحساسياته كل البعد، اتوا بها وعاض، اغلبهم مطرودون من اهلهم، وفرت لهم الزمالة والانتماء الايديولوجي ارضية لبث حقدهم، والنيل من شرف تونس، وما وصلت اليه من عزة وكرامة، ارادوا تنصيب الاخوان المسلمين وما تابعهم، في ارض عرفت طول القرون بالاعتدال والتسامح، والتطلع الى الافضل بالمجهود الجماعي، وتجلى ذلك في كيفية ثورتها، و الدفاع عن استقلالية قرارها، لان لها جيش وطني أبي، ومجتمع مدني حسه مرهف، و كان رده قوي لمن يريد التلاعب بمصداقيته، باستعمال ازدواجية اللغة، لتبرير ساحته، وانكار الدمار الذي نتج عن شراكته في الحكم، وا لمن اعتمد تجريح الميت، وكان من الاجدر به التمعن في " ان خير الكلام ما قل وندر"، لان الحديث مع هؤلاء اصبح غير مجد، لنكرانهم مزايا المرحوم الرئيس الباجي قائد السبسي، وايديه البيضاء على مسارهم، وناله من جراء تدعيمهم اللوم من اهله، وحتى من اصدقائه، وهو من انصار بورقيبة ومن ابنائه الروحيين، مثله مثل محمد الصياح طاب ثراهما، ورزق الله اهلهما وذويهما جميل الصبر والسلوان، ومن حسن حظي، ان اكد لي كل منهما ان البلاد فقدت طبقتها السياسية النيرة، لعدم مواكبتها الواقع المعاش، وجريها المتواصل وراء كرسي الحكم، والتمتع بالغنيمة التي يوفرها، وبسؤالي عن ما يجب القيام به كان جوابهما واحد، "اختيار الرجل المناسب في المكان المناسب، بدون حصانة تذكر"، ورجوع المسؤول الى مهنته الاصلية، بعد انتهاء المهمة، ولا جزاء ولا شكورا لذلك، لان التضحية في سبيل الغير هي المثالية في السلوك، ونظافة اليد، وخدمة تونس لا غير، وللرجوع الى من "اين لك هذا" في اطار حوكمة رشيدة يكون الحل الانسب للخروج من المأزق التي هي فيه البلاد بجميع الموازين، والخوف كل الخوف ان تزداد الكراهية، وتعمق الهوة بين اصناف المجتمع، وما كثرة الاحزاب و الجمعيات المتواصل تكوينها الا عنوان على انقسامات داخلية خطيرة، تذكيها بالتمويل ايدي خفية واجندات خارجية، لمزيد اضعاف الدولة، وتفكيك لحمة ضحى في سبيلها اجيال بالنفس والنفيس، ودولة ناشئة ومسؤولة تحاول ان تعيش عصرها، وتندمج فيه بالاعتماد على نفسها بسياسة تناغم مع الشعب، تتصدي لمن يعمل غلى ترك الحبل على الغارب، لعله يجني بعض الارباح من الازمة المتواصلة، بتوخيهم الضغط من الشارع أما الصحافة الملقبة بالسلطة الرابعة اين هي في هذا المشهد؟ بكل حزن فقدت دورها الرئيسي في بلادنا، وهو تقريب وجهة النظر بين الحكومة والشعب والمعارضة، واصبحت طرفا يميل حيث يميل مصدر تمويلها، ولنردد لها بيت المتنبي الذي كان يردده الزعيم بورقيبة (حسب مارواه لي الاستاذ محمد الصياح) ذو العقل يشقى في النعيم بعقله واخو الجهالة في الشقاوة ينعم ان حرية الصحافة امر ضروري وحيوي لبناء الجمهورية الثانية، وما شهدناه في المباريات بين المترشحين وكيفية الاسئلة الموجهة لدليل واضح على ان الاعلام هو حكومي، لا اعلام عمومي حر ونزيه كما نتمناه، يتوارد علينا مترشحون دون ان نعرف سيرهم، ولا هويتهم الذاتية، يكبلونهم بأسئلة عن التضخم والدين العمومي و مجابهة الارهاب والتعليم والصحة... وما الى ذلك من مواضيع تهم مصير البلاد، ويطلب منهم الاجابة في بضع ثوان؟ وبالرجوع الى الاسئلة وغموضها، يتبين غياب الاحتراف من المحررين لها، وعدم الاجابة عنها من طرف المترشحين دليل على ذلك، ولم تدرك الغاية التي ترمى اليها التجربة ومن الأوكد اعادة النظر في فحواها، لكن السؤال المطروح من يتحمل هذه البلبلة الجديدة ؟ وما هي كلفتها على المواطن؟ هل مكنت الناخب فعلا من الاختيار المناسب؟ أما نظام المؤسسات المحتمل ان تسير به الشؤون السياسية، فلم يبن اصلا على الحريات، وعلى مبدا اعمال الفكر، بل على خارطة افرزتها انتخابات عاطفية المرجع، والقضية اليوم ان النوايا اصبحت اكثر وضوخا، لمن يريد الاصلاح ويبحث عن التقدم والسؤال هو كيف يمكن مواصلة البناء وخطر الانقسام يلوح به وكل اصبح يفكر ان "الدنيا على قرنو هو"؟ ان انعدام الثقة تجر حتما الى انعدام اللحمة السياسية، وظهور الازمة تبدأ عند ما تزول الحدود بين صراعين، الصراع السياسي والصراع الشخصي، فيستغل احدهما لتحقيق اهداف غير سياسية او العكس تلك هي خواطر من واقعنا، اردت المساهمة بها في هذا الخضم السياسي، الفريد من نوعه في تاريخ الامم، وبلادنا "بلاد العجائب والغرائب"، كما ذكرته سابقا، لعلنا نهتدي، بحضورنا المكثف للتصويت، واختيار الأجدر من المترشحين، الى مسار الاصلاح الحقيقي، الكفيل بإرجاع الثقة المفقودة، والنظر الى المستقبل القريب العاجل، وما بترقبنا فيه من تضحيات جسام، مهما كانت نتائج الانتخابات، لان العالم اصبح لا يرحم، والاندماج فيه قضية مصيرية "وقل اعملوا فسير الله عملكم ورسوله و المؤمنون"صدق الله العظيم