من دلالات انحياز جزء كبير من الشعب التونسي نحو الأستاذ قيس سعيد واختياره رئيسا للبلاد بدل كل المترشحين الذين تقدموا لسباق الرئاسية وفشلوا في مسعاهم هو أنه شخصية معروف عنها نظافة اليد والاستقامة الأخلاقية والبعد عن الشبهات وتغليبها صفة التعفف وحب الوطن و المصلحة العامة فوق كل مصلحة بما يعني أن كل الذين انتخبوا قيس سعيد كان هاجسهم أن ينتخبوا شخصا تتوفر فيه صفات القيادة لمحاربة الفساد والإرادة القوية والصادقة لمحاصرة الظاهرة التي نخرت المجتمع ومؤسسات الدولة . ومن تأثير موجة الطهورية التي نجدها تجتاح المجتمع التونسي هذه الأيام وهذه العودة القوية لشعارات الثورة الأولى التي حاول البعض طي صفحتها ومن تأثير طغيان حالة الوعي التي فرضت نفسها على تفكير وسلوك الكثير من التونسيين أن أصبح مطلب محاربة الفساد وسد مداخله محورا بارزا في برامج كل الأحزاب السياسية التي عاد الكثير منها للحديث على مخاطر الفساد وضرورة تفعيل مقاومته بعد أن أصبح اليوم مطلبا شعبيا حيث وجدنا أن من أوليات البرنامج الحكومي الذي صاغته حركة النهضة وتقدمت به للأحزاب الأخرى كأرضية وقاعدة للمشاورات حول تشكيل الحكومة أولوية محاربة الفساد . لذا وفي محاولة لمرافقة الحكومة الجديدة وترشيد تصورها في سعيها لمحاربة ظاهرة الفساد ، نظم مركز دراسة الإسلام والديمقراطية يوم السبت 26 أكتوبر الجاري ندوة فكرية احتضنها نزل المشتل بالعاصمة خصصها لتقديم مقترحات وتوصيات عملية للحكومة المرتقبة بغاية مساعدتها على تلمس الطريق السريعة والسبيل الناجع للتغلب على هذا الخطر الذي يعيق الدولة عن التقدم والبناء ويكلف المجتمع الكثير من الأخطار والعراقيل ويتسبب للفرد في الكثير من التراجع القيمي والأخلاقي ويجعل الكل في حالة من الفساد الرخوة والقابلة للتعايش مع الفساد ويفقد الأفراد الرغبة والإرادة في المقاومة والإصلاح. في هذه الندوة التي أثثها كل من السيد شوقي الطبيب رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والسيد فوزي العريبي المستشار القانوني بالهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والأستاذ سامي براهم الباحث بمركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية والسيد محمد النوري الخبير في الاقتصاد والتمويل الإسلامي تم تجنب الحديث المتداول حول التصنيف المعروف للفساد الكبير والفساد الصغير وكذلك الحديث حول الأرقام والإحصائيات وترتيب تونس ضمن قائمة الدول المكافحة للفساد وغير ذلك من المعطيات التي عادت ما يعاد الحديث عنها بمناسبة تناول موضوع الفساد وعوضا عن ذلك فقد تم التركيز عما يجب فعله عمليا لتحقيق نتائج ملموسة من أجل محاصرة الظاهرة وعلى التوصيات المستعجلة التي على الدولة التقيد بها والتي لا تكلفها الكثير والمقترحات التي لا تتطلب منها الرجوع إلى مجلس نواب الشعب ولا تصطدم بمؤسسات الدولة كالسلطة القضائية وغيرها . لقد تم في هذه الندوة التركيز على بعض الاجراءات السريعة التي لا تكلف الحكومة أي احراج أو اكراه وهي في متناولها ومن صلاحياتها وهي ضرورية من أجل التقليص من منسوب الفساد. افتتح السيد شوقي الطبيب رئيس هيئة مكافحة الفساد مداخلته بالقول بأنه قد لاحظ خلال عمله بالهيئة ومعالجته للملفات بأن الارادة السياسية مفقودة لمحاربة الفساد وأنه ليست هناك رغبة حقيقية للمضي بعزيمة قوية في هذا الطريق الصعب وأن كل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة قد تراخت ولم يكن لديها الإرادة الصادقة في محاربة الظاهرة لذا فإنه من يريد أن يحارب الفساد حقيقة فعليه أن يحارب المنظومة الفاسدة لا الأشخاص الفاسدين وما نلاحظه مع كل أسف هو أننا نحارب الأشخاص الفاسدين ومن تعلقت بهم شبهات فساد وتركنا المنظومة الفاسدة تشتغل وتواصل نشاطها وهذا طبعا لا يسهل معالجة الظاهرة التي تحولت إلى شبكة قوية وإخطبوط يحتاج إلى سياسة واضحة فحينما تحدث سفير الاتحاد الأوروبي بتونس السيد " برغاميني " عن وجود 250 عائلة تتحكم في مفاصل الاقتصاد فقد كان على حق وقد شخص الفساد جيدا رغم كل ما قيل عن تدخله في الشأن الداخلي للبلاد. فمشكلتنا الحقيقية ليست مع الأشخاص وإنما مع منظومة الفساد التي لم نشرع إلى اليوم في تفكيكها وقصتنا مع الفساد قصة طويلة جذورها تعود إلى عقود من الزمن وقد بسط المؤرخ " عبد الواحد المكني " رئيس جامعة صفاقس القول في هذه القصة التي بدأت منذ الدولة الحسينية أين تشكلت بداخلها منظومة من الفساد تسببت في انهيار الدولة وإفلاس خزينتها وما انجر عنها من قيام ثورة شعبية قادها علي بن غذاهم بسبب الاجراءات التي اتخذها الباي الحسيني للترفيع في المجبى وإرهاق الشعب بمزيد من الأتوات نتيجة إفلاس الدولة بعد أن سرق محمود بن عياد أموال أول بنك تأسس بتونس سنة 1848 وقد شاركه في هذا العمل اليهودي نسيم شمامة ومن تداعيات إفلاس الخزينة قيام ثورة بن غذاهم سنة 1864 وقدوم لجنة " الكومسيون المالي " سنة 1896 التي جاءت لإصلاح المالية العمومية للإيالة التونسية تمهيدا للاستعمار والتدخل الأجنبي وفرض الحماية الفرنسية والوصايا على الاراضي التونسية وبعد الاستقلال حاول الرئيس بورقيبة محاربة الفاسدين من خلال سنه لقانون تتبع به كل من تورط مع الباي وتعلقت به شبهة في أي نوع من أنواع الفساد وقد تمت مصادرة الكثير من أملاك الأشخاص المرتبطين مع دولة البايات ولكن سياسة بورقيبة هذه في محاربة الفساد لم تكن موجهة نحو تفكيك المنظومة الفاسدة وإنما اقتصر عمله على محاصرة الأشخاص الذين تعلقت بهم شبهات فساد ليتم فيما بعد الاستفادة من المنظومة الفاسدة التي بقيت تعمل ليظهر فاسدون جدد خلفوا من تم القبض عليهم والتخلص منهم . ولما جاء محمد مزالي إلى الحكم في بداية الثمانينات من القرن الماضي حاول هو الآخر التصدي للفساد لكنه اصطدم بمنظومة قوية منعته من الاقتراب منها و تفكيكها غير أن الفضل يعود إليه في التنقيح الذي أجراه على المجلة الجزائية بإدخال الفصل 96 الشهير صلبها والذي يحاكم اليوم بفضله الكثير ممن تعلقت بهم شبهات فساد . وبخصوص الرئيس بن علي فإن تعامله مع الفاسدين كان مصلحيا و انتقائيا وكان يوظفه في محاربة خصومه وبغاية تصفية حسابات شخصية لا غير فكل من لم يقبل به ولا يرضى عنه توجه إليه تهمة فساد مالي أو أخلاقي ونتيجة لكل هذه القصة الطويلة مع الفساد ولهذه السياسة التي لم تتول تفكيك منظومته فلقد بقينا إلى اليوم نراوح مكاننا في هذا الموضوع الذي لم تقدر أي حكومة من الحكومات أن نحل شفرته لذلك فإن ما ندعو إليه اليوم إن كنا صادقين وما نطالب به الحكومة الجديدة إن كانت جادة في محاصرة الظاهرة أن تتحول سياستها من محاربة الأشخاص الفاسدين إلى تفكيك كامل المنظومة الفاسدة ومسألة محاربة المنظومة هو إجراء من صميم عمل و صلاحيات الحكومة . وحتى لا يكون كلامنا انشائيا ومجرد خطاب نظري فإننا تقترح على الحكومة القادمة جملة من التوصيات التي يمكن أن تتخذها في موضوع محاربة الفساد منها : أولا : على الحكومة أن تقوم بالتعبئة العامة ضد ظاهرة الفساد بكل الوسائل وخاصة باستعمال وسائل الاعلام حتى تتحول إلى حالة عامة لدى الشعب برفض الفساد ورفض التعايش معه لذلك فما هو مطلوب من الحكومة هو الشروع في القيام بحملة تحسيسية بجميع أنواعها على غرار الحملة الوطنية ضد الارهاب . ثانيا : عقد مؤتمر وطني لتقييم نتائج ما تحقق من تطبيق الاستراتيجية الوطنية للحوكمة ومكافحة الفساد خاصة وأننا على علم بعدم تطبيقها وعدم تفعيلها وبقيت إلى اليوم حبرا على ورق وهذا التقييم ضروري للوقوف على أسباب التعطيل وهي أعطاب سياسية بالأساس لغياب الإرادة السياسية ولعدم وجود من يتحمس لها و من يؤمن بها . فما هو مطلوب من الحكومة القادمة هو أن تعيد الحياة إلى هذه الاستراتيجية بوضع الأشخاص الاكفاء لقيادتها مع تشريك كل الجهات المعنية من سلط قضائية ومجتمع مدني وإعلام وغيرهم . فعملية تقييم هذه الاستراتيجية هو عمل ضروري على الحكومة أن تقوم به قبل أن تنطلق من جديد في ما تروج له من رغبتها في تشكيل حكومة على قاعدة محاربة الفساد وفي هذا الإطار فإنه على الحكومة أن لا تغفل عن توفير الوسائل اللازمة لإنجاح هذه المهمة ولضمان التنفيذ الجيد وذلك بتوفير التمويل اللازم فمن دون امكانيات مادية لا يمكن لمثل هذه الاستراتيجية الهامة أن تنجح. إن النجاح في الحرب على الفساد يحتاج إلى تجنيد نفس الامكانيات التي توفرت لمحاربة الارهاب. ثالثا : الإذن بإجراء تدقيق شامل لتقارير كل هيئات الرقابة وهيئات مكافحة الفساد والتي تم تجاهلها ولم تتم متابعتها واليوم ما هو مطلوب من الحكومة لو أرادت أن تحارب الفساد بصدق أن تلتزم بتوصيات هيئات الرقابة وأن تنفذ قراراتها وما انتهت إليه وهذا إجراء عادي وضروري ويدخل في صميم عملها ودون ذلك نعود إلى المربع الأول الذي نجد فيه الهيئات تعمل وتصدر التوصيات والحكومة تستمع و تتغافل ولا تكترث . رابعا : تعميق تطبيق منظومة الصفقات والشراءات العمومية عن بعد وعبر المنظومة الإعلامية و الذي يخلف غيابها الكثير من إمكانية التلاعب و الفساد وتركيزها يحقق قدرا كبيرا من الشفافية والحوكمة فإذا أردنا اليوم أن نقلل من الفساد في ميدان الصفقات فعلى الحكومة أن تجبر الادارة أن تتعامل في شراءاتها وصفقاتها وفق منظومة الشراءات عن بعد وإبرام الصفقات وفق منظومة الإعلامية. خامسا : الدعم العاجل للقطب القضائي و المحكمة الإدارية و هيئات الرقابة و محكمة المحاسبات و الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بالموارد البشرية اللازمة والمالية واللوجستية فمن دون دعم بشري ومالي لا يمكن لهذه الهيئات أن تعمل في ظروف مريحة وأن تحقق نتائج عاجلة وما لمسناه في هذه المسألة هو غياب الارادة السياسية في تدعيم القطب القضائي حيث نجد عددا قليلا من القضاة المؤهلين موكول لهم عدد كبيرا من الملفات ووضع بهذه الشاكلة لا يمكن أن ننتظر منه نتائج مرجوة خاصة وأن القضاة الذين تم تكوينهم للعمل بالقطب القضائي يتم نقلتهم اليوم بحجة دواعي العمل. سادسا : الشروع في تطبيق نظام الحوكمة المفتوحة والرقابة عن بعد. سابعا : بإمكان رئيس الحكومة في إطار ما خوله له الدستور من صلاحيات لضبط السياسة الجزائية للبلاد أن يعتبر مكافحة الفساد أولوية وطنية في عمل القضاء فمن غير المعقول ونحن بصدد الاعلان عن محاصرة الفساد أن يظل البت في الملفات القضائية نسقه بطيء للغاية حيث أنه من بين 670 ملف أحالتهم الهيئة على القضاء لم يتم البت إلى حد اليوم إلا في حوالي 7% منها فقط. ثامنا : على رئيس الحكومة المقبل أن يضع ضمن أولوياته المتأكدة حوكمة قطاع الطاقة ومجال الصناعات الاستراتيجية التي تقول عنها كل الدراسات بأن الفساد فيها متسع ومراجعة مجلة المحروقات والمناجم يساعد كثيرا في توضيح الرؤية ويضبط الأمور بكل دقة فكل الشبهات التي أثيرت في علاقة بمناخ الفساد الذي أتعب البلاد كان يصب في ميدان المخزون الوطني من النفط والغاز وجميع الموارد الطبيعية التي تحتاج إلى إعادة إدارته بطريقة تجعل الدولة مشرفة عليه بكل دقة من حيث إعادة النظر في الاتفاقيات والعقود المتعلقة بعملية الاستكشاف والتنقيب والاستغلال. تاسعا : لا يمكن الحديث عن محاربة الفساد من دون الحديث عن نشاط الديوانة وما يحصل في المواني التجارية من عمليات تتعلق بشبهات فساد في علاقة بالبضائع القادمة إلينا في حاويات من دول أجنبية يحوم عليها الكثير من الحديث حول رشاوى وأموال تدفع يوميا لإدخالها بطرق غير شرعية لذا فإن رقمنة عمل الديوانة هو إجراء متأكد اليوم حتى ننتهي مع هذا الموضوع الحساس الذي يرهق الدولة ويتسبب في هدر الكثير من الأموال خزينة الدولة أولى بها. ومع حوكمة قطاع الديوانة نحتاج إلى إجراءات عاجلة لحوكمة قطاع الصحة وإعادة تنظيم المستشفيات العمومية التي تعرف الكثير من التجاوزات على مستوى استغلال الأدوية والتلاعب بالفواتير وعدم استغلال المعدات الموضوعة على ذمتها وإحكام الرقابة في موضوع العمل الاداري للطاقم الطبي وشبه الطبي ووضع رقابة دقيقة للنشاط التكميلي لأطباء مستشفيات للحد من توظيف القطاع العام لصالح الاقطاع الخاص فاليوم هناك فساد كبير ينخر القطاع الصحي رغم الجهد الكبير الذي تبذله الدولة في تسخير الأموال اللازمة لتحسين عمل المستشفيات حيث تم رصد تلاعب كبير بالأدوية والمعدات والأجهزة . كما نحتاج إلى تحيين كراس الشروط الخاص بممارسة نشاط المصحات الخاصة واستعمال البطاقات الذكية ومراجعة المنظومة القانونية للمصحات الخاصة والشراءات العمومية في مجال الصحة وإحداث جهاز مركزي للشراءات في القطاع الصحي من أجل حوكمة استعمال الأدوية والمعدات.