صَدَرَ اليوم السبت 2 نوفمبر 2019 عن دار «ديار» للنّشْرِ والتوزيع في تونس روايةُ "حَرْقَة إلى الطّليان" للكاتب الصّحفي التونسي المَعْرُوف"صالِح الحاجّة" . وهذا العمل السّردي الأوّل للكاتب يَتناوَل يِلُغَةٍ سَلِسَة ظاهِرَة الهجرة غَيْر الشرعيّة "الحرقان"العريقة نسبيّاً للشباب التونسي مِن بلادِه إلى أوربّا بِعامّة وإيطاليا بِخاصّة ، وعلى خلفيّة هذه الهجرة (مستخدماً تقنيّة الفلاش باك أوالاسترجاع) يُضيء الراوي وَبَعْضُ شخصيّاتِه زوايا مُعْتِمة مِن الواقِع السياسي والإجتماعي لِتُوتس خمسينات وستينات وسبعينات القَرْنِ المُنْصَرِم، كما يُعْنى بِمآل المُتَوَرِّط في الهجرة غير الشرعيّة والمأساة التي تنتظره .وَيَتَميّزُ عَمَلُ صالح الحاجّة هذا بحبكة قويّة فَضْلاً عَن عُنْصُر التّشويق الذي بات غائباً عن البنى الجماليّة لأغلَب الروايات التي تَفيضُ عَنها المطابعُ في السنوات الأخيرة. وقَع هذا العملُ الذي صَدَرَ بِغِلافٍ للفنّانِ السّوري "رامي شَعْبُو" في384 صفحة ، قياس 21/15سم. وَثَمَن النّسخة الواحدة منه :30د.ت. وهُوَ مُتَوَفِّرٌ بَدْءاً مِن ظهيرة اليوم السبت في العاصمةِ التونسيّة بمكتبة "الكتاب"-شارع الحبيب بورقيبة ، ومكتبة "المعرفة" - ساحة برشلونة، ومكتبة "بوسلامة"-باب البحر، وفي أريانة بمكتبة "العيون الصافية "- المنزه السادس. وَمِن أجواء الرواية نقتطف لأصدقائنا القرّاء: " خرجتُ مِن المطعم وأنا أجْري وقد استبدَّ بِي رُعْبٌ فظيع مِن صاحِبِه ألبرتو كارتوزو.. لقد اقتنعتُ بأنه كلب شرس وخطير فهربتُ منه وخرجتُ إلى الشارع وأنا أجري.. وألهَثُ.. و"أتلفَّتُ" بين الحِين والآخر لَعَلَّ الكلب يَجري خلفي للانقِضاضِ عَليّ.. كانت شوارعُ باليرمو خاليةً مِن المارّة.. وباردة جدّا.. فالطقس خريفيٌّ ورذاذٌ مِن المَطر بِصَدَد النزول.. وأنا وسط الشوارع أجري كالمجنون.. تذكرتُ كلْبَ حومتي الذي هَجَمَ عَليّ وأنا صبيّ صغير.. نَهَشَني.. وتركَ لي ما يُشبه الحُفرة في فخذي الأيسر.. وأرعَبَني.. وأرهَبَني.. وقَتلَنِي خَوفاً.. ومنذ تلك اللحظة صرتُ أكره الكِلاب.. وأخافُهُم.. ولا أحِبُّهم إلى هذه اللحظة.. وفي ذاتِ اليوم الذي نَهشَني فيه هذا الكَلْب ذهبتُ إلى المدرسة في "رحبة الغنم".. وما إن دَخَلنا القسْمَ وجَلسنا على مقاعدِنا حتى طلبَ مِنّا المعلِّمُ سي الشقيري وكان رَجُلاً طويلا وغليظاً وخَشِنا وكأنه جِذْعُ نَخلة ولذلك كنتُ أنظر إليه دائماً باستغراب وأطِيل النظرَ في هيئتِه.. لقد طَلبَ مِنّا إخراجَ مَصاحِفنا.. ثم أمَرَني أنا بالذات بالخروج إلى السبّورة.. وأمَرَنِي بأنْ أقرأَ سُورةَ "الشرح" ولكنني ارتبَكْتُ.. وتلعْثَمْتُ مع أنني أحِبّ هذه السورة بالذات لأنها تُعطيني الكثيرَ مِن الأمل وأؤمِنُ بِكُل حرفٍ مِن حُروفها.. وتَستوقِفُني دائما آية: "إنَّ مع العسْر يسرا".. وكنتُ كثيرا ما أرَدّدُها عندما تَضَع أمي أمامي صَحْنَ البيصارة وقطعة الخبز "البائت".. أو عندما لا أستطيع شِراءَ ملابس العِيد.. أو ما يَطلبه مِنا المُعَلِّم مِن أدواتٍ مدرسيّة.. مع أنني أحبّ هذه السورة لم أستطِعْ أن أقرأها.. فَغَضبَ المُعَلِّم سي الشقيري.. وأخَذَ المسطرة وضَرَبَني بِها بِقَسْوَة.. حاولتُ أنْ أقرأ فقلتُ: ألم نشرَحْ لك صدرك.. وظللت أعيد: ألم نشرحْ لكَ صدرك.. لقد نسيتُ بقيّة السورة.. وإذا بِسِي الشقيري يَضربُني مَرَّة أخرى على أصابعي بِمسطرَتِه فبكيتُ وقلتُ له: سيدي.. سيدي.. لقد «أكلني» كلْبُ الحومة.. ولذلك لم أراجِعْ السورة.. وإذا بِغَضَبِه يزداد.. ويهجم عَليَّ وكأنني أنا الكلب وهُوَ يقول: ماذا قلتَ؟.. أكَلَكَ كلْب.. إذن أنت خَطر عَليّ وعَلى قِسْمي.. فاخْرُجْ.. اخرُجْ بسرعة لعنة الله عليك واذْهَبْ إلى المدير وأعْلِمْهُ بموضوعِك.. وأخذَني مِن كتفي وأخرَجَني مِن القسْم بِعُنف وهُوَ يُردِّد بِغَضَب: اخرُج.. اخرُجْ لعنة الله عَليك.. وذهبتُ بسرعة إلى المدير وأنا أبكي فَسَألَني: لماذا تبكي..؟ رَويْتُ له ما جرى وما فَعَلَه بي المُعلِّم وما إن سَمعَ الحِكايةَ حتى ابتَعَدَ عَنِّي مسافةً لا بأس بِها ثُم قال لي: أنتَ كلْب مَكلوب.. عليكَ أن تُغادِر المدرسة حالاً ولا تَعُدْ إلا ومَعكَ شهادة مِن معهد باستور.. اذْهَبْ وأغْرِبْ عن وَجْهِي ولا أريدُ أن أراكَ يا كلْب.. شعرتُ بالإهانة وتصوّرتُ أنني رُبّما صرْتُ كلْباً.. وغادرتُ المدرسةَ وأنا أتألَّم وحزين.. وفي طريقي إلى بيتِنا مررتُ أمام بيت الزعيم الحبيب بورقيبة الذي كان يَقَع قُبالةَ المدرسة التي كنتُ أدرس بِها.. ولمّا وصَلْتُ أمام البيت توقَّفْتُ قليلاً أمامه ورحْتُ أتطلَّع إلى بِنايته وراودتني فِكْرةُ مُحاوَلة الدخول إليه لأرى بورقيبة.. وقفتُ طويلا أمامَ البيت.. وأنا أفكّر.. وأتردَّد.. وأبكي.. وأتوجَّع مِن عِبارة الكلْب المَكْلُوب.. تساءلتُ: هل أتقدَّم خطوة نحو الباب وأطرقُ الباب وأطلبُ مقابلة بورقيبة وأحكي له عمّا جرى معي وأقولُ له أين الكرامة التي وعَدْتَنا بها عندما عدْتَ يوم غرّة جوان ذلك اليوم الأغرّ الذي شاركتُ فيه آلافَ الناس في استقبالِكَ وأنا طفل ما زلتُ أحبو تقريباً.. كنتُ أنظر إليكَ أيها الزعيم وإلى عينيكَ بالذات بِمُنتهى القُدْسِيّة والإعجاب وأردِّد السورة التي حفظتُها وأنا عُمْري خمس سنوات في الكتّاب: بسم الله الرحمان الرحيم "ألم نشرَح لك صدرَك ووضعْنا عنك وزْرَك الذي انقض ظهْرك فإنّ مع العُسْر يُسرا إنّ مع العُسر يُسْرا فإذا فرغْتَ فانصبْ وإلى رَبِّكَ فارغَبْ".. وعدتُ أتساءل بَعْد أن تقدمتُ خطوة نحو الباب: هل أطرقُ الباب.. وأدخلُ مُباشَرَة إلى بورقيبة.. وأطلبُ مِنه أنْ يخرجَ معي ويُرافقني إلى المدرسة ويوبِّخ المعلّمَ ثُم المدير لأنهما عامَلاني وكأنني كلْب.. هل أنا كلب يا بورقيبة؟ هل مِن المُمكِن أنْ يُصبح طفلٌ في عُمري وضعفي وقهري بمثابة الكلب المَكلوب.. تقدمتُ مِن الباب ووضَعتُ فوقه يدي ولكنني سُرعان ما تراجعْتُ.. فلقد خفْتُ.. فَمَا أدراني قد ينهرني بورقيبة ويطردُني ويطلبُ الشرطة ولن يكتفي بوصفي بالكلب بل قد يطلب من حرّاسه أن ينقلوني إلى حديقة الحيوانات.. تركتُ بيت بورقيبة واتجَهْتُ صوب باب سيدي بلڤاسم وأنا خائف.. ثم تضاعفَ خَوفي عندما استبدّ بِي وَهْمٌ كبير بأنني ربما بالفعل صرْتُ كلْباً بَعْد أن نَهشَني كلْبُ الحُومة.. ولكنني أبْعَدْتُ هذا الوَهْمَ عندما تذكرتُ أنني لو صرْتُ كذلك بالفعل لصرْتُ أنبَحُ مثلَ كُلِّ الكِلاب.. إذَنْ أنا لستُ كلْباً مثلما يزعمُ المعلِّم والمدير.. أنا إنسان.. وسأبقى إنسانا.. هكذا أقنعتُ نفْسِي واجتزتُ بابَ سيدي بلڤاسم وأنا أشمّ رائحة الفطائر.. اشتهيتُ فطيرةً بالعَسَل.. ولكن مِن أين لي بثمَنِها..؟ توقفتُ قليلا أمام حانوت الفطايري ورأيتُه يَقلِي.. ثُم بَعد أن يَقلي الفطيرةَ يَرْمِي بها في إناءٍ مليءٍ بالعَسَل فتعومُ فيهِ ثُم يُخرجها ويَعرضها للبَيع.. وأنا في شوارع بالرمو هارب ..وخائف.. وضائع تذكّرت أنّ مع العسْر يُسرا.. وتذكرتُ السورة بِكُل آياتِها التي نسيتُها أمامَ المعلّم.. فشعرتُ بكثير مِن السعادة ونسيتُ الفطيرةَ ومضيتُ في طريقي..".