ما زال اليسار الماركسي في حيرة من أمره إزاء ما حصل في الانتخابات الرئاسية الأخيرة بعد فوز الأستاذ قيس سعيد برئاسة الجمهورية ومازال طيف كبير من المنتمين إلى المدرسة الماركسية في عجز واضح لفهم كيف صعد هذا الأخير إلى الحكم وهو القادم من خارج الأحزاب السياسية ومن خارج دائرة النضال السياسي ضد الاستبداد ؟ وكيف عجزت أدوات التحليل الماركسية عن تفسير وفهم هذا الحدث الذي تم وصفه بالظاهرة التي تحتاج إلى تفكيك وفهم حتى ندرك ما حصل ؟ وما زال اليسار الماركسي كذلك في حيرة لتفسير كيف فشلت أحزاب اليسار بكل تصنيفاتها في تقديم مرشح وازن يمثلها لمنصب الرئاسة يمكن أن يحظى بثقة الناس؟ وكيف فشلت أطروحات أحزاب اليسار في استهواء الناخب التونسي وحمله على التصويت إلي مشروعها ؟ من أجل ذلك حرصت جمعية نشاز القريبة من حزب المسار الماركسي على تنظيم ندوة فكرية احتضنها فضاء " التياترو" بالعاصمة يوم السبت 16 نوفمبر الجاري طرحت فيها سؤالا لا يزال محيرا يقول : هل أن صعود إسم الرئيس قيس صعيد واحتوائه كامل المشهد السياسي كان ظاهرة محدودة في الزمن مآلها الزوال كغيرها من الظواهر السياسية أو الاجتماعية أم هو واقع جديد يعبر عن التحولات التي يشهدها المجتمع التونسي وتوجه مجتمعي جديد لكيفية التنظم ومرحلة جديدة تعبر عن بروز اشكال جديدة للاحتجاج والتعبير عن الغضب الشعبي ؟ وإذا كان قيس سعيد ظاهرة وهو كذلك حسب جمعية نشاز فكيف يمكن فهمها خاصة وأنها جلبت إليها في الدور الثاني حوالي 3 ملايين ناخب واستحوذت على 70 % من أصوات الناخبين بما يعني أن الرجل قد ساندته شرائح عديدة من المجتمع ومن كل الاتجاهات الفكرية ومن الفئات العمرية المختلفة بما جعل منه ظاهرة تستحق الدراسة والاهتمام خاصة وأنه لا ينتمي إلى أي حزب سياسي وقادم من خارج منظومة الحكم ويقدم نفسه على أنه ضد المنظومة وضد كل الخيارات السياسية ورفع شعار " التأسيس الجديد والشعب يريد " من خلال حكم نفسه بنفسه و من خلال الديمقراطية المباشرة التي تبدأ من المحليات ومن الاسفل نحن قمة الهرم السياسي بما يعني أنه يقدم خطابا مختلفا عن خيار الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية التشاركية التي تعد اليوم آخر ما وصل إليه الفكر الديمقراطي المعاصر. ولكن إذا اعتبرنا أن قيس سعيد وما حققه من فوز كبير على كل المتنافسين على الرئاسة يعد ظاهرة من منظور علم الاجتماع السياسي فهل لهذه الظاهرة خلفيات وقوى خفية عملت على صعودها وهيأت الظروف لفوزها ؟ أم أنها ظاهرة محلية في المجال الجغرافي انتجتها ظروف محلية وفرضت فوزها بعد مسار الخيبة الذي عرفته الثورة التونسية ؟ فسؤال ماذا وراء ظاهرة قيس سعيد يحمل فرضيتين ممكنتين الأولى تميل إلى الإجابة على سؤال هل أن الظاهرة ستختفي وتنتهي بمجرد اكتمالها حينما تصطدم مع واقعها ليجد من انتخب قيس سعيد نفسه في حالة الحلم الخاطئ والبديل العاطفي الذي لا يتحقق للخروج من الخيبات التي تلت حدث الثورة بعد أن يكتشف أن الرجل قد حمل رسالة فوق طاقته وأننا كنا في وضعية الاختيار غير الواعي. والفرضية الثانية هي معرفة هل أن وراء قيس سعيد قوى خارجية وداخلية كانت وراء صناعة الظاهرة ومعرفة كيف اشتغل العقل الذي هندسها وإلى أي مدى يمكن أن يصل بها ؟ وهذه الفرضية الثانية لا تخفي امكانية التدخل الخارجي والتخطيط الأجنبي في انتاج ظاهرة قيس سعيد بديلا عن كل الخيارات التي ظهرت طوال ثمان سنوات من الثورة في محاولة لتجنيب البلاد سيناريو الحالة المصرية حينما تأمر عليها الأخوة الأعداء. إذا تركنا جانبا كل هذا التحليل الذي ينتمي إلى حقل معرفي أكاديمي يحاول أن يدرس ظاهرة صعود قيس سعيد كحدث سريع ومفاجئ نتج من خارج سياق الأحداث من منظور علم الاجتماع السياسي واقتربنا قليلا من مجريات وقائع الثورة التي انطلقت يوم 17 ديسمبر 2010 واكتملت برحيل الرئيس السابق يوم 14 جانفي 2011 وما حصل بعدها من محاولات التآمر عليها ومن خيبات وتراجعات و الالتفاف على أهداف الثورة وتحويل وجهتها نحو قضايا أخرى لم تقم عليها الثورة ولا هي من هواجس من قام مثل القضية الهووية والصراع العلماني الإسلامي وإخراج موضوع الاقليات والمثلية الجنسية والعروشية والانتماء الجهوي إلى سطح الأحداث وغيرها من القضايا التي قسمت الشعب وألهته عن قضايا الثورة الأساسية وهي بالأساس تغيير منظومة الحكم القديمة وإبعاد رموز الحكم القديم من المشهد السياسي والذهاب في مسار ثوري لاستكمال الاهداف بتأسيس دولة قوية وعادلة وبمضمون اجتماعي وتحمي الحقوق والحريات وتعتني بالجهات وبالعدالة الاجتماعية إذا استحضرنا هذا المعنى العميق للثورة فإنه يمكن لنا أن نفهم كيف جاء قيس سعيد ؟ وكيف التف حوله الكثير من الشباب الذي صوت هذه المرة له ولم يصوت من قبل ؟ ويمكن فهم كيف انتصر قيس سعيد على المنظومة السياسية الحالية وكيف يمكن اعتباره حالة وعي شعبي شبابي تحاول استرجاع ما تم افشاله واستكمال ما فات ومواصلة الطريق التي قطعت في محاولة أولى بدأت منذ الأيام الأولى بعد رحيل الرئيس السابق في سنة 2011 وفي محاولة ثانية في سنة 2014 بقدوم الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي للحكم . إذا أردنا أن نفهم ظاهرة قيس سعيد علينا أن نفهم لماذا رفع كل أنصاره وكل من سانده شعار " الشعب يريد .." الذي رافق الحملة الانتخابية واشتهر به قيس سعيد وهو شعار جامع مقتطع من أحد شعرات الثورة وهو " الشعب يريد اسقاط النظام " وأصبح يعبر عن الخط الثوري وعن التيار الذي يشق المجتمع الذي خرج أبناؤه يوم 14 جانفي 2011 يطالب بتغيير النظام السياسي وكامل منظومة حكمه غير أن الذي حصل هو أن رأس النظام قد سقط وأزيل في حين منظومة الحكم وكل أدوات وآليات السلطة و رموزها وكل من ساهم في إدامة حكمها وكل من ساعدها على الهيمنة والسيطرة وكل من خدمها وكل من دافع عنها بقي يعمل ويشتغل بل زاد على ذلك بأن خطط لافشال الثورة . ما حصل أن شعار الشعب يرد نظام حكم جديد بفكر وثقافة جديدة وبنظرة مختلفة تغلب القضايا الاجتماعية وتحقق مطالب المهمشين قد تم اختزاله من طرف السياسيين ومن تسلم السلطة والحكم في كتابة دستور جديد وإجراء انتخابات ديمقراطية تقترب من معايير الشفافية والنزاهة العالمية وتركيز منظومة إعلام حر وتم تحويل وجهة الثورة إلى مسارين عوضا عن مسار واحد : الاول مسار مطالب المهمشين وكل من قام بالثورة والطبقات الاجتماعية الهشة والجهات المنسية والمغيبة واستكمال أهداف الثورة . والمسار الثاني هو مسار الانتقال الديمقراطي وتثبيت السلطة واستعادة استقرار النظام و الدولة ومن هنا حصل الشرخ السياسي في مسار الثورة لنجد أنفسنا أمام حركة للتاريخ تم فيها تغليب مسار تركيز النظام والدولة واستكمال مسار الانتقال الديمقراطي على حساب مسار مواصلة الثورة واستكمال اهدافها ما حصل أن الاحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني والنقابات مهنية ومكون الطبقة الوسطى من موظفين وعمال العمود الفقري للمجتمع التونسي والكثير من المثقفين والسياسيين قد انحازوا إلى خيار الانتقال الديمقراطي وهو خيار اصلاحي ترقيعي وتخلوا عن مطلب إسقام نظام الحكم واكتفوا بإسقاط رأس منظومة الحكم وتم التعبير عن هذا التوجه فيما قاله الراحل الرئيس الباجي قائد السبسي "الثورة إشاعة ولا أحد يحكم معي " في إشارة إلى أنه فوق المجلس القومي التأسيسي. ومنذ تلك اللحظة تم القطع مع المسار الأول والتخلي عن المسار الثوري وهو خيار التغيير الجدري والبناء والتأسيس من جديد وتم نسيان كل أهداف الثورة وإعلاء مسار استكمال الانتقال الديمقراطي الذي يركز على اجراء الانتخابات واستكمال المؤسسات الدستورية والتصالح مع المنظومة القديمة واستعادة النظام القديم فحصل التحول الكبير في مسار الثورة الأمر الذي ولد تيار من داخل المجتمع ومن رحم هواجس الثورة وخيباتها بدأ يفكر في طريقة يستعيد بها المسار الثوري وكيفية يعيد للثورة زخمها وإشعاعها وأهدافها وبدأ التخطيط لكيفية هزم " السيستام " الذي هزم الثورة ولطريقة لاستعادة زمام الامور واستكمال الأهداف التي خرج من أجلها الشعب لإسقاط كل صور ومظاهر وسلوك النظام القديم الفاسدة لذلك كان شعار الشعب يريد من دون التعدي إلى ماذا يريد هذا الشعب كان مقصودا وعن وعي في رمزية ودلالة إلى أن المطلوب اليوم ليس البرنامج وإنما المطلوب هو شخصية ورمز يجتمع فيه خصال تكون قادرة ومؤمنة بضرورة مواصلة الثورة واستكمال اهدافها واستعادة وهجها فكان قيس سعيد هذا الرمز الذي يبحث عنه كل من كان يتألم مما حصل من انحراف للثورة وغاضب من كل ما حصل من خيبات ومما حصل من مخطط لإفشالها لذلك كان انصار قيس سعيد يردون على كل من يتهمهم بأنهم يسيرون وراء رجل ليس له برنامج واضح بأن المطلوب في هذه المرحلة ليس البرنامج وإنما المطلوب هو الشخص والرمز القادر على قيادة الحراك الشعبي الذي يريد أن يسترجع زمام المبادرة ويسترجع السيادة ويسترجع السلطة وفق شعار الشعب يريد أن يحكم نفسه بنفسه . ما حصل مع قيس سعيد هو أن طيفا كبيرا من الشعب التونسي يريد استكمال كتابة سردية ثورته بعد استعادة المبادرة التي سلبت منه واستكمال الاهداف التي تم الانحراف بها واستكمال الثورة التي تم افشالها وتقزيمها وحصرها في زاوية استعادة النظام والدولة والخوف على هيبة الدولة. ما يمكن قوله هو أن قيس سعيد ليس ظاهرة وإنما هو حالة وعي يمر بها الشعب التونسي لاستعادة لحظة 17 ديسمبر 2010 ولحطة 14 جانفي 2011 الثورية بكل حمولتها ومضمونها و العودة إلى نقطة البداية وإلى المطالب الاولى للثورة والشعارات التي قامت عليها ومنها شعار الشعب يريد اسقاط النظام الذي يختزل في كل المطالب الاجتماعية والسياسية التي تم الالتفاف عليها واليوم يتم العودة اليها واسترجاعها .