قال الله في كتابه العزيز؛ وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) النساء أما وقد تلقيت تحية الاستاذ أبو ذاكر الصفايحي أعزه الله عما كتبته من خواطر عن المغرب العربي الكبير أو الاتحاد المغاربي، وكيف بتنا أقل اتصالا بيننا ومعاملة، بخلاف لما كانت عليه دولنا الخمس التي كانت تسمى بشمال إفريقيا مجتمعة، وكانت منها أربعة الجزائر والمغرب وتونس وموريتانيا من فرنسا مستعمرة، والخامسة ليبيا من إيطاليا محتلة، وكل ذلك كان قبل ان ننال استقلالنا. كانت أحوالنا وقتها أكثر قربا واندماجًا وتعاملا في ميادين عدة، بقيت بخاطري منها خاصة، مؤسسة طبع العملة الموحدة، الفرنك، والتي كانت بين الجزائروتونس وحدهما، كان مقر فرعه بتونس يقع بنهج روما رقم 10 وقد تحول بعد استقلالنا عن منطقة الفرنك الفرنسي الذي كان يضمننا، إلى إدارة للديوان السياسي قبل أن تستقر نهائيًا فيه المحكمة الإدارية إلى الان. أنشئنا الدينار كعملة، غير قابلة للتحويل أو للصرف خارج حدودنا، وكل من تعمد حمله عند السفر ينال الجزاء المشدد، بالحجز والخطية والسجن إن اقتضى الأمر ذلك. كان ظننا ان العملة من مقومات الاستقلال، وبتنا نتباهى بذلك، ونسينا انه لن توجد عملة بالعالم كله مستقلة بذاتها غير الدولار الأمريكي، وما شابهه من ذهب وفضة تعتمد كرصيد ثابت. اعرف أن العقيد معمر القذافي الذي تدخل الحلف الأطلسي بقوته وعتاده، لأسقاط نظامه بالانقلاب عليه وقتله بدم بارد، كان من بين الأسباب التي لم يتسامح معه هؤلاء الكبار، نيته بعث عملة أفريقية مستقلة، تعتمد الذهب والفضة دون غيرهما، مثلما كان في العصور السابقة جاريا، وقبل بعث العملات الورقية التي فرضت نفسها علينا بدون اختيارنا. لم يكن ذلك فقط ما بقي بخاطري بل الذي بقي أيضا قائما، التعليم الزيتوني الذي انهي لأسباب أجهلها وأريد تجاهلها، لأنه كان في نظري أحسن ترجمان لنا وسفيرا متأصلا في كل بلاد المغرب العربي وفي بلدان ما وراء الصحراء. كان للتعليم الزيتوني وقتها الفضل في تكوين علماء في التسامح على قواعد صحيحة معتمدة على مذهب الإمام مالك ومدونة سحنون وابن زياد عليهم جميعا رحمة الله. انها من أخطاء الماضي التي تغلبت فيها السياسة، لما كانت تونس تسعى لإصلاح تعليمها وتوحيده لان التنافر بين المدرسين والزيتونيين استحل، وبات مهددا للوحدة الوطنية وقتها، كانت إصلاحات سنة 1958 للتعليم الثانوي تقضي بإحداث شعب ثلاث تعتمد فيها شعبة-أ -التي تقترب من التعليم الصادقي الذي أنشئ في عهد خير الدين باشا وبقي مناسبا، ولكن شعبتي -ب و- ج- تغلبتا، لان فرنسا بقيت حاضرة بيننا تحكم بالوكالة بِنا. قد تكون خطة احمد بن صالح في التعاضد غير موفقة، ولكنني أخشى ان سقوطه المدوي كان سببه تدخله في البرامج التعليمية المفلسة وقتها. وكما حصل بعدها للمرحوم محمد مزالي الذي تحمس للتعريب أكثر مما يلزم، وكما قاله له الحبيب بورقيبة رحمة الله عليهما في آخر لقاء. بذلك خسرنا معركتنا وبقينا تحت رحمة من استعمرنا ودفعنا ثمن تجرؤونا على اسيادنا. لقد افتقدنا مكاننا في المغرب العربي كله وفيما وراء الصحراء بعدما دخلت بلدانه كلها في الإسلام عبر القيروان التي كانت وقتها عاصمة، بذلك افتقدنا لغتنا وإشعاعنا وخسرنا الفرنسية كلغة وباتتلغتنا العربية مشوهة، كالمالطية خليطا من اللهجات التي تتعلم في المرافئ التجارية والإبرات، التي تختلط فيها الأجناس. رأيت ذلك بنفسي لما كنت وال على القيروان، وكان بها معهد الوعظ والإرشاد الذي كان به أكثر من مائة وخمسين طالبا من الأفرقة يدرسون العلوم الدينية للتخصص في شؤون دينهم الإسلامي، ولنشر الدعوة في بلدانهم على قواعدها، وكان فيهم أكثر من مائة من جمهورية السينغال، كان يتردد عليهم سفيرها من حين لأخر. كما كان بورقيبة رحمه الله في زمن ولايتي لتلك الولاية، يحضر شخصيا بمناسبة المولد النبوي الشريف احتفاء به، وكان يقوم بإلقاء محاضرة دينية بالمناسبة، ويعتلي لها منبر جامع عقبة رضي الله عنه وأرضاه ثم يجلس بعدها أمام المحراب ليستمع للمدائح والأذكار التي كان يتلوها الشيخ علي البراق وبعده ابنه محمد رحمهما الله، كان شديد الإعجاب بها، لأنها تذكره بمناقب سيدنا رسول الله محمد ابن عبد الله عليه الصلاة والسلام. وأعود للتحية التي فاجأني بها الصديق العزيز ابو ذاكر، والذي لم أتشرف يوما ان التقيت به، ولم توفره لي أي مناسبة، سوى ما كنت أقرأه له من حين لآخر من المواضيع الشيقة التي يطرقها بموضوعية وترفعا مبتعدا عن الإزعاج بالسب والشتيمة التي باتت تقلقنا بعدما استفحلت هذه الأيام في بعض المواقع المتعددة، بخلاف موقعنا هذا -الصريح-الذي يجمعنا فيه صاحبه الاستاذ صالح الحاجة وابنه زياد، وأحييهما بهذه المناسبة، وقد فسحا لنا فيه المجال لنكتب ما نشاء، أو نرى مناسبا، من الخواطر والذكريات النافعة. أما بالنسبة للأستاذ أبو ذاكر فاني اعبر له عن شكري وامتناني بصداقته واعتزازي بما عبر لي من محبة خالصة لوجه الله. وليس لي بما أرده له سوى بما جاء بالآية الكريمة التي افتتحت بها هذه الدردشة، متمنيًا ان أكون في شخصي الضعيف عند حسن ظنه دائما، راجيًا من الله ان يثيبنا عن اعمالنا بأحسن منها ويغفر لنا خطايانا انه الغفور الرحيم الذي نطمع في عفوه دائما والسلام. تونس في 5 فيفري 2020