اصبحت عملتنا المتداولة تسمى بالدينار الذي تم بعثه منذ غرة نوفمبر 1958 عوضا عن الفرنك الفرنسي الذي يقابله المليم عندنا وكنا نخلط بينهما الى الان في العد والتسمية. كان ذلك بعد استقلال تونس التام وبعثها لبنكها المركزي في 19 سبتمبر 1958 واتذكر اننا فرحنا بذلك الإجراء وبدأنا تدريجيا نتعود على العد والتعامل بعملتنا التي ادخالت فينا عزة ونخوة. واتذكر ايامها وكنت ادرس بمدرسة الحقوق العليا المحدثة وكيف تحصلت لأول مرة على نصف منحة تساعدني على القيام بشروني وادرس وذلك مقابل التزامي بالعمل في الوظيفة العمومية لمدة عشرة أعوام، كانت تلك المنحة تبلغ 12دينارا و500 مليما في الشهر الدراسي الواحد وكنت وقتها قيما بمبيت الحي الزيتوني قبل ان يتغير اسمه الى معهد ابن شرف ويخصص للتلاميذة الموجهين لشعبة ( أ ) بعد إصلاح التعليم وتونسته في زمن الوزير محمود المسعدي رحمه الله. انهيت دراستي العليا وتخرجت في نهاية سنة 1960 وانتدبت اثرها معتمدا متربصا لمدة سنة وبعدها ترسمت فيها وكان مرتبي وقتها يساوي ما يقابل الرقم القياسي 280 ويتقاضي صاحبه 54 دينارا ومنحة تكاليف خاصة بالمعتدين تبلغ 18 دينارا تصرف كل ثلاثة أشهر مجمعة. كان ذلك يعد من المرتبات المحترمة التي تكفي للقيام بكل المتطلبات والمجازفة باقتناء مسكّن يدفع ثمنه مؤجلا بالتقسيط المريح على عشرين سنة وهو الذي فعلته بعدما تزوجت وأنجبت ثلاثة أبناء، وبقيت في تلك الخطة مدة عشر سنوات انعم خلالها بترقيات في كل سنتين ب20 نقطة كنت افرح بها واجتهد اكثر في عملي وتنقلت خلالها الى مزاكز عدة بولايات الجمهورية من وسطها الى جنوبها وشمالها وتعرفت على بلدي تونس وازددت حبا لها ولاهلها حتى تمت ترقيتي الى خطة اعلى في صائفة سنة 1970 برتبة وال على الكاف وبعدها قفصة واخيرا القيروان وكنت أتقاضى وقتها مرتبا محددا ب170 دينارا في الشهر الواحد ومنحة تمثيل تساوي 60 دينارا اَي ما جملته 230 دينارا، كانت كافية ومحترمة وقتها واسنر حالي هكذا أتمتع بالترقيات الاستثنائة كل سنتين مثل غيري من الموظفين المجتهدين، وكان اخر مرتب لي بعدما اصبحت واليا للولاة مديرا للإدارة الجهوية بوزارة الداخلية 350 دينارا في الشهر وبعض مائات الدنانير في آخر السنة مقابل تمثيلي للدولة في مجالس ادارة بعض الشركات الوطنية ولم تتجاوز 400 دينار في السنة. ترشحت بعد عشرين سنة من العمل في وزارة التداخلية لمجلس الأمة وانتخبت عن ولاية المنستير لدورة مختصرة وكانت المنحة المخصصة لنا شهريا 500 دينار وبطاقة ركوب مجانية في وسائل النقل العمومية من قطارات وحافلات داخل العاصمة. كان ذلك حالنا ايامها وعشنا على تلك المرتبات واقترضنا عليها لبناء مساكن سكناها ومازلنا نسكنها وكنا قريبين من امثالنا من صغار ومتوسطي الموظفين ناخذ النقل العام ونمشي في الطريق وناكل الطعام وننعم بالاحترام بفضل ذلك الدينار الذي كان عليه صورة الحبيب بورقيبة ضمانا لرواجه ولم نعرف له اهتزازا او تدهورا حتى سنة 1987 لما تقرر تعويمه وانزلاقه وتكرر ذلك الى ان بات لا يساوي شيئا يذكر وبتنا نحسبه بالمليون والمليار وترتفع بسبب ذلك التضخم الأسعار ودخلنا في الحلقة الجهنمية التي ليس لها قرار. كل ذلك ولم نر الى آليوم إرادة صادقة لتوقيف ذلك النزيف الذي بات يستفحل يوميا ولم يعد في مقدور البنك المركزي التحكم في تدهوره وهو قابض عليه ولا يريده ان يهرب او يتنفس بالرغم من تفاقم استعماله في التجارة الموازية وإغراق الاسواق بكل السلع وما لذ وطاب. لم افهم استمرار حماية الدينار التي كانت مفهومة في وقتها خشية منا من تهريب راس مالنا من طرف المغادرين لتونس اثر الاستقلال، اما وقد وصل الاستثناء ستين سنة من عمر الدينار فاني أراه غريبا في زمننا هذا وبعدما زالت الحدود بين البلدان واترك الجواب للمختصين عن حيرتي وإقناعي بوجاهة الاستثناء الذي يدوم ستين سنة.