تونس/الصين: بحث سبل تعزيز التعاون السياحي    عاجل/ السجن وخطايا مالية لرجل أعمال ينشط في هذا القطاع..    افتتاح الوحدة الثالثة في تونس للشركة العالمية في صناعة الأدوية " حكمة" بقيمة استثمارية تقدر ب 50 مليون دينار    هذا النجم المصري يعلن انفصاله رسمياً عن زوجته... التفاصيل    ظاهرة طبية مقلقة: عندما تسبّب الأدوية الألم بدلاً من تخفيفه... كيف ذلك؟    مونديال تحت 17 عاما: المنتخب التونسي يترشح إلى الدور السادس عشر    عاجل/ أبرز ماجاء في أول لقاء بين وزير الخارجية والسفير الامريكي الجديد    المهرجان العالمي للخبز ..فتح باب الترشّح لمسابقة «أفضل خباز في تونس 2025»    جندوبة: تتويج المدرسة الابتدائية ريغة بالجائزة الوطنية للعمل المتميّز في المقاربة التربوية    الدكتور صالح باجية (نفطة) .. باحث ومفكر حمل مشعل الفكر والمعرفة    أخبار الحكومة    بعد دفع الكفالة من قبل الحكومة الليبية .. هانيبال القذافي حر    ميناء رادس: 20 سنة سجنا لمهرب المخدرات وشريكه    قابس: تنظيم أيام صناعة المحتوى الرقمي من 14 الى 16 نوفمبر    ميزانية 2026: تطور بنحو 10 بالمائة في ميزانية وزارة البيئة    صدور العدد الجديد لنشرية "فتاوي تونسية" عن ديوان الإفتاء    بنزرت: إنتشال 5 جثث لفضتها الأمواج في عدد من شواطئ بنزرت الجنوبية    المتلوي: وفاة ستيني بعد إصابته بطلق ناري من سلاحه    تحذير شديد من خطورة النوم بالسماعات    الرابطة الثانية: التعادل السلبي يحسم لقاء سبورتينغ بن عروس وسكك الحديد الصفاقسي    إطلاق منصة رقمية لإحداث الشركات الأهلية..#خبر_عاجل    السفير الأمريكي الجديد بيل بازي يتسلّم مهامه في تونس    فرنانة: إصابة تلميذين بخدوش وكدمات بعد انهيار جزئي لسقف قاعة تدريس    مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي: كافية الراجحي تتحصل على جائزة البحث العلمي وعملان تونسيان ضمن المُسابقات الرسمية    يوسف بلايلي يُعلن إصابته ويودّع الجماهير برسالة مؤثرة    عاجل/ وزير التجارة: صابة قياسيّة في زيت الزيتون والتمور والقوارص    عاجل: هذا ما جاء في تقرير أمير لوصيف في مواجهة الدربي    بعد 20 يوما من سجنه: هذا ما تقرّر في حق ساركوزي..#خبر_عاجل    تقلبات جديدة ..كيف سيكون الطقس طيلة هذا الأسبوع؟..    عاجل/ حماس تقدم مقترحا لخروج مقاتليها العالقين..    هذه الدولة تبدأ استقبال رسوم حج 2026...وتؤكد على عدم الزيادة    تحوير جزئي لمسلك خطي الحافلة رقم 104 و 30    ميزانية التربية 2026: مدارس جديدة، حافلات نقل، وترميم ...شوفوا التفاصيل    سليانة: تقدم موسم البذر بنسبة 30 بالمائة في ما يتعلق بالحبوب و79 بالمائة في الأعلاف    الترجي الرياضي: نهاية موسم "يوسف بلايلي"    ''واتساب'' يُطلق ميزة جديدة للتحكم بالرسائل الواردة من جهات مجهولة    الأهلي بطل للسوبر المصري للمرة ال16 في تاريخه    كميات الأمطار المسجّلة خلال ال24 ساعة الماضية    بطولة فرنسا: باريس سان جرمان يتغلب على ليون وينفرد بالصدارة    عاجل/ طائرات حربية تشن غارات على خان يونس ورفح وغزة..    عاجل: الزّبدة مفقودة في تونس...الأسباب    صالون التقنيات الزراعية الحديثة والتكنولوجيات المائية من 12 الى 15 نوفمبر 2025 بالمعرض الدولي بقابس    أستاذ يثير الإعجاب بدعوة تلاميذه للتمسك بالعلم    عاجل: هبوط اضطراري لتسع طائرات بهذا المطار    عاجل: هذه الدول العربية تحت تأثير الكتلة الحارة    تونس: 60% من نوايا الاستثمار ماشية للجهات الداخلية    عاجل: غلق 3 مطاعم بالقيروان...والسبب صادم    علاش فضل شاكر غايب في مهرجانات تونس الصيفية؟    عاجل: عودة الأمطار تدريجياً نحو تونس والجزائر بعد هذا التاريخ    دواء كثيرون يستخدمونه لتحسين النوم.. فهل يرتبط تناوله لفترات طويلة بزيادة خطر فشل القلب؟    أفضل 10 طرق طبيعية لتجاوز خمول فصل الخريف    شنيا الحاجات الي لازمك تعملهم بعد ال 40    عاجل/ فاجعة تهز هذه المعتمدية..    محمد صبحي يتعرض لوعكة صحية مفاجئة ويُنقل للمستشفى    رواج لافت للمسلسلات المنتجة بالذكاء الاصطناعي في الصين    الشرع أول رئيس سوري يزور البيت الأبيض    رحيل رائد ''الإعجاز العلمي'' في القرآن الشيخ زغلول النجار    أولا وأخيرا .. قصة الهدهد والبقر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إبراهيم شبوح يكتب لكم : كلمة وفاء لذكرى انقضاء قرن على ولادة محمد العروسي المطوي
نشر في الصريح يوم 07 - 02 - 2020

عندما يفْجؤنا الفَنَاءُ فيمن نحبّ، ويختطف نفْسًا كانت من أنفاس الحياة ونَفائسها، نهتزّ ونتمرّد أمام هذا الفعل القائم على سلطان العَدَم، ثم يُدركُنا العَجْزُ فنَسْتَسْلم للهزيمة الأبديّة التي فُرضَتْ على الكائن منذ أوّل البشريّة بقانونها لحقيقة الصّيْرورة بين المتقابِلَيْن: الكَوْن والفَساد، أو البدء والمعَاد؛ وقديما أوقفتني الحَيْرةُ أمامه، فقلت:
حَيَّرني الفناءُ لا يُخْطِي ولا تَلْحقُهُ في تيهه الأوْهامُ والظُّنون
يُلْقي لنا النسيانَ حتّى لا نَرى فَداحةَ الفِعْل الذّي تُغْفِلُه العُيون
الذّاكرُ السّاهرُ لا ينْسَى ولا يَشْفع من قَسْوته الرَّجاءُ والأَنين
ثم نسترِدّ بما يُساعدنا به الفكر والذِّكْر ما يُجْمِلُ عزاءَنَا فيمن فقَدْنا، فنَسْتَعِيدُه بصُور شَتّى من الاستعادة، بالحبّ لمن أَلِفُوه، وبالذِّكْر للمآثر، وبالنّموذج الإنساني المتميّز، وبإحياء ما تَرك من تُراثٍ مكتوب فيه هِبَةُ عَقْله وهَبَّةُ تجاوُزه بالنّظر المسْتَكْشِفِ لما وراء الزّمان الآني. وبقَدْر نَفاذهذا التّراث ومُطابَقته لحقائق الكَوْن الثّابتة والمستكْشفة، تَبْقى حياةُ الذين نَسْتعيدهم ماثلةً معنا بَدائلَ وخلَفًا لصُوَرِ وُجودهم. وهكذا جدّد الإنسان ومدّد حياة من لا يُحْصى عَدُّهم من نَوْعه، ممّن تُصاحِبُنا ذكْراهم ومآثرهم ونَماذجُهم الخُلقيّة العالية الباقية، وفَلْسفاتُهم وإنْجازاتُهم التي تَضيق وتَتّسع بقدْر طاقَة إبداعها وإشْعاعها التي خَرجوا بها للنّاس، من فَلاسِفةٍ ومُلوك وقُوّاد وشُعراء وكتّاب ومُفكّرين.
إنّ محمد العروسي المطوي الكاتب والمثَقّف الذي نَستعيدُه في ذكراه خاصّة هو أحد أولئك المُتميّزين الذين لا يَنقضي أثرُهم، لأنّ في جوهر كيانه وآفاق مَسيرته وسيرته معالم مُشِعّةوقيم إنسانية كبرىتستَعْصي على النّسيان، لأن فيها طاقة البقاء.
تعود بي الذّاكرة إلى شتاء سنة 1952 وأنا تلميذ بالسنة الثانية المتوسطة، وقد انتقلتُ من القَيْروان إلى تونس، وكانت دروسي موزّعة بين المدرسة الخلدونية ومَعْهد بن عبد الله بالصبّاغين (مدرسة إيطالية أُخْليت لفائدة التعليم الزيتوني). وأمكن لي قَبْلها بسنة (1951) أن أتعرف وأوثّق صلتي بالأسْتاذ العلّامة عُثمان الكعاك الذي خَصّني برعايته وحثّني على حضور دروسه في مدرسة العطارين للترجمة، ودفعنيوأخي المرحوم الصادق مالك القيرواني لتعلم مبادئ اللّغة الألمانية. ليكون ذلك مدخلاًلنا لاستعمال كتاب تاريخ الأدب العربي لبروكلمان والتركيز على فهم مصطلحاته ليعدّنا لفهرسة مجموعة المخطوطات التي تحتفظ بها المكتبة، وأفسح لنا فعملنا معه أثناء العطلة الصيفية (3 أشهر). وكان يتردّد عليه بعض الطلبة للسّؤال عما يعترضهم من صعوبات البحث، فيوجّههم ويُيَسّر لهم مَصادر العمل الموجودة في ذلك الزمن الذي كان الكتاب العربي نادر الوجود. وكان هذا العالم المتدفّق معرفةً والمتخرّج من مَدرسة اللّغات الشرقيّة سَخيّا بعلْمه، ويتحدّث العربية بيُسْر ووُضوح جاذب يشدّ بها سامعيه، واستأذن عليه يومًا (شَيْخٌ) شابّ معمّم من الجيل الجديد الذي استَقْبله المعهد الزيتوني بعد نجاحه في مناظرة التدريس التي أقيمت بمناسبة حركة التوسّع والإصلاح الجديد الذي يَقودُه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، قيل لنا إنّه الشيخ محمد العروسي المطوي،كان يسألالأستاذ عثمان بنبرة محتشمة وأدب أهل العلم عن "الحروب الصليبيّة" ومن كتَب فيها، أذكر أَنّه أشار عليه بتاريخ ابن الأثير، وأَطْلَعه على جزء منه كان مَرْصوفًا في الرفّ الذي وراءَه مع بقيّة أجزائه؛ وناوله كتبا أخرى لا أذكرها. وتحدّث معه عن أسباب تلك الحروب، فسجّل اسماءها وشكَر بصوتٍ هادئ خافت وخرج؛ والتفت لنا سي عثمان وقال: هذا الشاب من الجيل الجديد للمشايخله أخلاق أهل العلم ويحمل بذور المعرفة. وعندَما عرفتُ جدول دروس السنة الدراسية 52-53 كان أستاذ مادّة التاريخ هو الشيخ محمد العروسي المطوي.
وقف أمامنا بقاعة الخلدونية وُقوفَ الواثق بنفْسه، مع حياءٍ تعبّر عنه عيناه المتفحِّصتان وابتسامته الخافتة الدائمة المنبئة عن وداعةٍ وطيبة نفس، تحدَّث فصيحًا متمكِّنًا هادئا،فقدّم لحملات الحروب الصليبية ومن أَرّخ لَها، وأسبابها؛ وقضينا معه زمنًا بلغ - فيما أذكر -من البرنامج ما سماه الحملة الثّامنة على تونس (حملة لويس التاسع).
وقفت معهُ بعد أن عرفتُ أنّه شاعر، وراجَتْ بيننا قصيدتُه التي رَثى بها شَيْخه مُعاوية التّميمي محاكيًا قصيدة شيخه المدرّس الشاعر محمد بوشربيّة:
مُصابُك لا يُقاسُ به مُصابُ ورُزْؤُكَ في فَمِ الأَيَّامِ صَابُ
كان يقرأ ما أقدّم له من شعريَ المبكّر ويَبْتسمُ ولا يقول شيئًا، ربّما كان يعبّر عن الرّضى والتشجيع، أو المجاملة المؤدبة بالصمت لما لم يرقْه. ثمّ افترقنا، ولا أراه إلّا لمامًا فأقف لتحيّته في سوق الكتبية أو في مكتبة خُوجة الحديثة بباب منارة.
ومرّت الأيّام وسافَرْتُإلى القاهرة ملتحقًا بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة) للتخصّص في الآثار والحضارة الإسلامية، كانت القاهرة المدينة العظيمة متوتّرة تنتظر شرّا إثر تأميم قناة السويس، وكل مكان منها مجالٌ للتدريب العسكري لجميع القادرين، وهذا مشهد جديد على قادم ليس له إلا الاندماج فيه، وكان جوّ الطلاب التونسيين مضطربًا متأثّرًا بالخلاف السياسي الذي جدّ في تونس من الموقفين المتقابلين للزعيمين بورقيبة وبن يوسف الذي استقرّ وقْتَها في مصر.
وجدَّدَ الطّلبة انتخاب مكتب اتّحادهم فتَرَشّحْت وآخرون، وانتُخِبْتُ كاتبًا عامّا لفرع القاهرة، وأقمتُ احتفال أوّل عيد للاستقلال التّونسي هناك. وكانت السّفارة التّونسيّة المستقرّة في مَيْدان المساحة في قصر صغير جميل تَضَمَّن المبنَى الرئيسي منها مكتب السّفير المرحوم الصّادق المقدّم، وخارج القصر مكتبان متواضعان من ملحق البناء بهما مكتب الملحق الصّحفي ومكتب الملحق الثّقافي الذي هو الأستاذ محمد العروسي المطوي.
زرتُه وقد غيّر هندامهُ وتحرّر من قُيود التّدريس وأصبح مُتطلّعًا أن يستفيد من إقامته في أهم مراكز الثّقافة العربية، فيتعرّف على النّخبة التي قرأ لها، كنت وقد حضرتُ إلى القاهرة قبله قد وثّقتُ صِلتِي ببعض الأوساط والرّجال في دار الكتب المصرية وتردَّدْتُ على الشّاعر الأستاذ خير الدين الزركلي وقد بدأ إعداد طبعته الثانية لموسوعة كتابه "الأعلام"، وكنت أسكن قريبًا من مَسكنه بمنْطقة الرّوضة، فصَاحَبْتُ الأستاذ العروسي لزيارته مَرّتيْن، وكان الحديث عن الشِّعر ومذاهبه المستجدّة، والذكريات مع صديقه أحمد شوقي خاصّة والأميرين شكيب وعادل أرسلان، وكان سي العروسي يردّد للأستاذ خير الدين ما يَحْفَظُ من شِعْرِه، من ذلك قصيدته:
العَيْنُ بَعْدَ فراقِها الوطنَا لا ساكنًا ألِفَتْ ولا سَكَنَا
وقصيدة دالية في ثورة دمشق انصرفَافي الحديث عنها طويلا،
وأنشدنا الزركلي مرثيّته للملك عبد العزيز آل سعود ونشرها في ورقة مستقلّة قدّم لنا نُسْختها، وكان طالعها يجمع بين التعزية والتهنئة، يقول:
عبدُ العَزيز قَضَى، سلِمْتَ سُعودُ ما في الرّجال كمن فَقَدْتَ فَقِيدُ
اقتطع سي العروسي مدَّةَ إقامته في القاهرة وقْتًا للثقافة والاتصال والتعارف، وقد زُرْتُ معه القاهرة التاريخية وأهمّ معالمها التي شدّتْهُ فُنونها المعمارية، وأكْملنا اكْتشاف كلّ ذلك في ثلاث زيارات، وزُرت معه المتحف المصري والمتحف الإسلامي والمتحف القبطي وحصن بابليون وقبة الإمام الشافعي. كان يقدّم لي النّصْح غير مرّة بلطف المشفق بتوخي الحذر وتجنّب المشاكل بالقول والاتصال بأصْحاب المواقف المتطرّفة تجاه الدولة، ولم ألمس من جانبه جَفْوَةً أو حِدّة أومُجابهة، ولم يفقد رغم حساسيّة منصبه ما نشأ عليه من الثّقة في نفسه ورقّة التّعامل، ولم يأخذ به انتماؤه الحزبي إلى مُنزلَق الانغلاق والكراهية لمن ألفهم من "تلاميذه"، ولم يكن من الذين انقلبت عوالمهم الداخلية وفقدوا ذاتهم تقرّبًا وزُلْفى لما يرفع شأنهم انتهازًا.
وبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود، اطّلَعْنا على بعض الوثائق المحرّرة عن طلبة القاهرة التي كان من البديهي أن تصدر عن المستشار الثقافي، ولكن كانت موقّعة من آخر نعرفه-سامحه الله- تدين نُخْبةَ طُلاّبنا إدانات لمجرّد شُبه التّواصل مع المُخالفين، فتقول وتفصّل المآخذ وتقرّر الحكم: إنّهم يتّصلون بفُلان، ولهم انتماءات قوميّة، ويَنْبَغي إزالتهم ! كذا. وكانت عقليّة الكثيرين في تلك الحقبة هي عقليّة زبانية "ساباط الظلام". وفي تلك الحقبة تحديدًا وُلد وكَبُر في تونس ما نسميه: الانتهاز.
لم تتغيّر معاملة سي العروسي معنا وظل راعيًا لأحد النبهاء من شبابنا هو المرحوم الطيب الشريف الذي كان من أكبر المتمرّدين.
وغادر سي العروسي منصبه لا أذكر إلى السعودية أو إلى العراق، وخفتَتِ الصّلة بيننا، وبقي الودّ والتّقدير ثابتًا.
كان سمحًا يتقبل المَلاَحِظ غير المتبجحة الخالصة للعلم بأدب العلم، لا يجد في ذلك حرجًا إن لمح فيها وجهًا للصواب خَفِيَ عنه، وهذا من خُلق سلامة الذات.فعندما ظهر كتابه عن الدولة الحفصية الذي كان أذاع مادّته، وحرّره بأسلوب متناسق مُيَسّر يربط تفاصيل أحداث هذه الدولة المتمدّدة، ويقدّم صورتها كما تصفها مصادرُ تاريخها، وقد انقطع لذلك العمل حتى يخرج على تلك الصورة من ربط المتباعد من أخبارها، مستخدمًا أحدث ما وصلت إليه البحوث التاريخية؛ اطّلَعْتُ عليه بعد صُدوره وأذكر أنّه أهدى لي نسختَه ثم جدّد الهديّة صديقي العالم اللغوي صهره الدكتور إبراهيم بن مراد، ووجدت في أوراقي أنّي تواصلت معه بالزيارة وذكرت له توقفا أولاه اهتمامه واستلم مني المذكرة التي قدمتُها له، وناقشني وسجّل بعض ما قدمتُه له من مَلاحِظ على أن يستدرك مناقشتها في النشرة القادمة على أنّه كشف جديد؛ ذكرت له: أن حديثه عن الدعيّ الحفصي الذي ادّعى أنّه الفضل بن أبي زكرياء يحيى الواثق المخلوع وأنه تأكّد باعترافه أنه خياط اسمه أحمد بن مرزوق بن أبي عمارة المسيلي.ووَضع له مؤرخو الدولة ترجمةً عن أصله ونشأته وأنه كان "قتّالًا سفّاكًا للدماء ظالمًا يظهر قطع المنكر ويأتيه" [الزركشي، تاريخ الدولتين، 97]، موضوعٌ يحتاج إلى بحث وتحقيق،ذلك أنّ الرجل كما يرجّح كان مطالبًا شرعيّا بحقّ، وأنه احتمى بشيخ الجواري من بني دبّاب: مرغم بن صابر، ولما وافقتْ الظروف أن يظهر اتصل له بالسلطان قلاوون في مصر ليفتح بلاد المغرب باسمه، ويسأله إنفاذ سَنْجَق شريف يفتح به البلاد. وأن هذه الحقائق ذكرها ابن عبد الظّاهر وهو من كتّاب الديوان المصري المعتمدين، وذلك في كتاب ظهر له في الستينيات اسمه: "تشريف الأيام والعصور في سيرة مولانا الملك المنصور" وأن مؤرّخي إفريقية بمن فيهم ابن خَلدون التزموا ب"البيان الرسمي" الذي أُنْهِيَتْ به القضيّة؛ ولم يُعِدْ ابن خلدون خاصة مُراجعة هذا الموضوع بعد أن رحل إلى مصر واقترب من المصادر الرسمية، وسكوتُه مجاملةٌ وحفاظٌ منه على علاقاته الباهتة مع الدولة وطلبٌ للسلامة، ومسالمةٌ للذين آخذوه ودلّهمنُفوره منهم وهجرتُه على اضطراب ولائه واستبداله بآخر.
وبعد فَشل حركة فَضْل أو الدّعيّوقَتْله، أرسل السّلطان الحَفْصي أبو حفص عمر بن يحيى وفدًا إلى مصر فيه قاضي الجماعة "لنَسْج المودّة واتحاد الخواطر" [سيرة المنصور، 44، 174].
لا أزال أذكر تعبير وجهه بالرضَى الباسم دون أن يقول كثيرًا.
إنّ الحديث عن منزلة محمد العروسي المطوي الفكرية والإبداعية كاتبًا وباحثًا وشاعرًا شأنٌ من شؤون الدّارسين لمخلَّفه المكتوب المنشور والمخطوط، لتقويم الرجل وتصنيفه في رتبته بين معاصريه وبين من تقدمه في الزمن.
ولكن القيم الكامنة في جوهر ذاته، والتي شكّلَتْها وصاغَتْها تنشئتُه بروح البيئة المتماسكة في أُسْرته ومَدينته الصّغيرة المتوارثة لتلك القيم والمتعاملة مَعها في تكامل اجْتماعي مُتناسق. ووسمَتْه بقيم الثّبات والصبر والوفَاء والسّخاء والنَّجدة. فهذه وما إليها قوامُ إنسانٍ تحقّقت له إنسانيّتُه وصمد نقيَّ الجوهر مبرأً من الزيف. فهذه المناقب والخصال هي الجديرة بأن تخرج للأضواء.
لقد أسّس العروسي المطوي مشاريع صالحة باقية يُذكر بها، لعل من أهمها ذاك الذي كان سببا في قيامه على قواعد العِلِّيّة والسَّببيّة ورعى منطلقاته، بعدما رَفَع الصّمام عن حبيس الزّجاجة، فخرج على مدى ثلاثة عُقود ونصف يَغْمر عالم العرب بَخْير ما أنتجه الفكر العربيّ الإسلامي والمغاربي من تراث أصيل منتقَى في أصول الدين والفكر والأدب والتاريخ والعلوم.
كانت البِدايَةُ شابًّا هادئ الطبع باسمًا متأمّلاً نبيهًا تأثّر بالفكر القومي الإسلامي في أربعينيّات القرن الماضي وتفاعل مع قضيّة فلسطين، وتأثّر بملازمته لأحَد روّاد الوطنيّة والفكر الإسلامي الأتقياء، الزّعيم محيي الدين القليبي الذي أخذ عنه الكثير وفتح له باب الفهم لعلل الأشياء وما يرتبط بها.
وعاد الشاب الحبيب اللّمسيالِجربيمن غربته من الشّرق ليجد عملاً في إحدى المكتبات المستجدة خارج سوق الكتبية الثابت حول جامع الزيتونة، حيث مارس الاتصال بالكتِاب وسُوقه، وكان ينجذب بالمؤانسة لزوار المكتبة ونُخْبة مرتاديها المترددين، مثل الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب، والجنرال محمد التركي والأستاذ محمد البهلي النيّال ومن إليهم ويحسن الاستماع إلى أحاديثهم في مجلس المكتبة المتواضع.
ثم نُكب الشابّ بالامتحان بالسّجْن أوّلَ أزمة الخلاف بين الزّعيمين بورقيبة وبن يوسف، فاتّهم بولائه للمعارضة، ثم أفرج عنه وعاد إلى عمله مُضيّقًا عليه بالمراقبة والمتابعة ولا يستطيع السفر خارج الحدود. وفي المكتبة الشرقية الكاسدة بعد هجرة صاحبها السّوري تعرّف على الأستاذ المطوي بعد انْقضاء عمله الدّبلوماسي وعودته نائبًا في مجلس الأمة، وتفهّم سي العروسي محْنة هذا النّازح من جربة ولمس فيه جوانبَ الخيْر، فتكرّم بجاهِه وخاطبَ في أمره وزيرَ الدّاخلية الذي أسعفه بجواز السّفر ورفَعَ الموانعَ عنه، وكانت تلك البداية لقيام أكبر مشروع مغاربي بل ومشرقي لنَشْر الكتاب المرْجع المحقّقِ والمتَرْجم والمطوّلات الكبيرة التي ظلت تنتظر الخروج من مَخطوطاتها المتآكلة المحدودة، وأغلبها من صُنْع المغاربة والأندلسيين، في فقه مالك وشروحه وتاريخ تونس وثمرات رجالها. وتمكّن اللّمسي- يرحمه الله- بعزيمته الصّامدة المتحدّية أن يخرجَ للبَحْث والإِضافة منذ إقامَته لدار الغرب الإسلامي (تونس) نحو ثمانمائة عنوان، يتفرع الكثير من أسمائها إلى نحو الأربعين جزءًا فما دون ذلك إلى الخمسة وإلى الثلاثة أجزاء، وهذا يتطلب شجاعةً وإقدامًا لم يتوفّر لغير صاحب هذا المشروع من الناشرين؛ ونغفل كيف حقق ذلك حتّى لا نطيل.
إنّ هذا المشروعَ الكبير المنَفّذَ الماردَ الجريءَ بصاحبه، هو من مَناقب العروسي المطوي وسَداد فراسته في الرّجل الذياستَنْجبهُفحرّر حيويَّتَهُ، بجاهه ورعَى بدايتَه وآزرَه حتّى استقام على طريقة نادرة في حُسْن التصرّف والاستقطاب ودقّة التمييز.
إذا قيلَ يومًا أحسنَ الزّهْرُ لم أقُلْ لسامِعه إلاّ لقد أحسنَ القَطْرُ
وأنا أقولُ: لقد أحسنَ البَحْرُ
يرحم الله الأستاذ محمد العروسي المطوي، فقد كان حياتَه وطنيّا قوميّا ناضَل ودفَعَ ودَعّمَ وأسّس، وعاشَ وفيًّا لشعاره الأثير: العمل والصمت والتأمل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.