لاشكّ أن الحوار هو البوابة المُثلى للوفاق في المجتمعات الناهضة، وهو في أغلب الحالات، ضروريّ وحتميّ لمعالجة القضايا والمسائل المطروحة، إلاّ إذا ما حادَ عن سياقه الموضوعي، وانزلق إلى حيث متاهات الخلافات والمشاحنات وتصفية الحسابات الشخصية، واختلط، في فضاءاته، الذين يعلمون والذين لايعلمون، وركب سروجه اللاهثون وراء مواقع وهميّة في دائرة السّراب. ولقد شهدت أغلب المناطق العربية مدّا هائلا من الحوار والجدال، على إيقاع الثورات المضطرمة فيها، ووجدت العديد من النخب الفكرية والسياسية الفرصة سانحة لتغيير استراتيجيات تحرّكها، منتهجة مسالك مبتكرة للاثارة والتمويه وتًَجْديد التموقعات، بعد ان جرّبت، خلال السنوات الطويلة الماضية كافة فنون التحليق. بعيدًا عن مشاغل الأمّة الأساسية. ولعبت الفضائيات وشبكات الأنترنات وصفحات التواصل الاجتماعي، التي هجمت على المشهد البصري واحْتلّته بأساليب الإبهار والإغراء والمباغتة، دورًا أساسيا في بروز هذه «النخب» المحمّلة بشحنات هائلة من التّوثّب لاستغلال ما يُتاح من فرصٍ، جادت بها أحداث ووقائع، لم تكن منتظرة، وقد لا تتكرّر في المستقبل، ووجد هؤلاء في ما يعيشه العالم العربي لمن لهيبٍ ثوريّ ميدانا خصبا للمزايدة وركوب الموجات الطارئة، والظهور بمظهر الماسك بالحلول والمنقذ من الظلال. ففي الوقت الذي انتظرت فيه الجماهير العربية الثائرة ان تتحرّك نخبها لدفع المدّ التحرّري، وتعبيد مسالك الانعتاق، وتوفير المناخ الملائم للحرية والبناء الديمقراطي السليم اكتشفت، بمرارة، ان هذه النخب قد لجأت إلى إثارة الفتن، واضرام سعير النعرات القبلية والجهوية والعشائرية، وتغذية الصدام العقائدي والمذهبي، بين أبناء الشعب الواحد، قصد تحويل الثورات الشعبية الرائعة إلى حروب أهلية مرعبة. يقول الشاعر أدونيس: «أين تتجلّى براعة العرب؟ في الإحياء أم في الإماتة؟ في الاحتفاء بالحياة أم في حفر القبور وتأبين الموتى، والاحتفاء بالموتى؟... هل تقوم الثقافة العربية على الفكرة الصخرة التالية: لا تقوم الحياة ولايجري الزمن إلا حيث يتدفق الدّمّ؟» لقد اندلعت ثورات الشباب العربي لتقطع مع هذه الثقافة الدمويّة، وتؤسس لثقافة الحرية والكرامة والرّفاه. ومن حسن حظ هذه الثورات ان غابت عنها النخب فَتدَفّقت بتلقائية، تَنْشدُ الحياة الكريمة وترسم ملامح المستقبل بعزّة وتفاؤل، ولكن ها هو خطر الالتفاف على مكاسبها يُداهمها، بعد أن تجنّدت «قوى مصادرة العقول» لتحويل وجهتها نحو الفتنة، موظّفة منابر الحوار والتواصل، في خرق مفضوح للقيم والمبادئ المؤسّسة للحرية الفكرية والسياسية. لكن أحرار الشباب العربي الذين فجّروا أروع الثورات في التاريخ الحديث لن يسقطوا في فخاخ الصِدام التي نَصَبتْها لهم «نُخب الفتنة» مدعومة بمنظري ثقافة الدماء.