لبّى داعي ربّه الهادي البكوش المناضل الوطني الدستوري الذي أحبّ تونس منذ شبابه الأوّل فعرف السجن منذ أن كان تلميذا في معهد الذكور بسوسة وواصل النضال عندما كان طالبا في فرنسا وهو زيادة على أنّه من نتاج الحزب الدستوري الجديد فقد تشبّع بقيم الوطنيّة وحبّ الوطن من انخراطه في أهمّ مدرس وطنيّة هي الكشافة التونسيّة التي قامتْ بدور فعّال وأساسي في مقاومة الاستعمار ولعلّ أحسن مرجع لمعرفة نضالات الكشفيّن التونسييّن ومن ضمنهم الهادي بكوش هو كتاب المناضل حامد زغل-أمدّ الله في أنفاسه- الذي فصّل القول في هذا الموضوع الهام وتحدّث عن الخلايا الكشفيّة التي كانت تطبع سرّا المناشير المناهضة للاستعمار وتصنع القنابل التي تُوضَع في معاقل المعمّرين لترويعهم وترويع أذنابهم من التونسييّن الذين خدموا ركاب الاستعمار والذين نجد اليوم من بين أبنائهم من يتطاول علينا بالنضال. فقد فصّل "حامد زغل" الحديث عن الشباب التونسي الذي تربّى تحت خيمة الكشافة التي أرضعتهم الوطنيّة وحبّ الوطن وكانت سندا حقيقي للكفاح الذي قاده الحزب الحرّ الدستوري مع المنظّمات الوطنيّة باقتدار إلى أن انجلى الاستعمار الرهيب الذي كتَم أنفاسنا و وسلب منّا خيراتنا و اعتدى على لغتنا و مقدّساتنا .وقد واصل المرحوم الهادي البكّوش النضال في صلب الحزب الحرّ الدستوري وكان مؤمنا بعدالة قضيّة الشعب التونسي وعرف السجون والتعذيب إلى أن نالتْ البلاد استقلالها عندها كان له دور كبير في تركيز دولة الاستقلال فقد ساهم من مواقع متعدّدة في تركيز أسس هذه الدولة وخاصة بِتقَلُّده أهمّ مسؤوليّة إبّان الاستقلال وهي تعيّنه كوالي وكان الوالي وقتها ركيزة التنميّة والتغيّر الشامل لوجه تونس فقام بأدوار كبيرة في كلّ من بنزرت وصفاقس كما تمّ تكليفه في صلب الحزب الدستوري بالشباب والتكوين والتوجيه و كما أسندتْ إليه الوزارة وإدارة الحزب وهو من المناصب التّي -في عز قوّة الحزب- لا تسند إلّا للمخلصين والمناضلين الصادقين المتميّزين بكفاءتهم كما عرف العمل الدبلوماسي حيث بقي سفيرنا في الجزائر لمدّة طويلا نظرا لأهمّية علاقتنا بالجارة الجزائر حيث أصبغ على هذه العلاقة ما هي في حاجة لها من أخوّة وتعاون وتفاهم ساعد البلدين الشقيقين على التعاون في كلّ الميادين ولمن يريد معرفة المزيد عن نضال هذا الرجل عليه الرجوع إلى المذكّرات التي أصدرها في مارس 2018تحت عنوان "بكلّ صراحة" وكتبها بالفرنسيّة وقد علمتُ أنّها بصدد الترجمة للعربيّة . والذي له علاقة بموضوعي هذا في هذه المذكّرات هو أنّه خصّص ما يزيد عن 400صفحة لما قبل السابع من نوفمبر ولم يخصّص إلّا سبعين صفحة لما بعد السابع من نوفمبر 1987 فالرجل يفخر أنّه صرف غزّ شباب وأغلب مراحل حياته في خدمة الوطن وبقيادة الزعيم الحبيب بورقيبة سواء في مرحلة الكفاح الوطني أو مرحلة بناء الدولة وسيعبّر عن حبّه للوطن ولبورقيبة الزعيم ورئيس الدولة في بيان السابع من نوفمر الذي كتبه بخطّ يده وقُرِأَ بدون أيّ تغيّر.وقبل أن أضع الإصبع على المواطن التي عبّر فيها الهادي البكوش عن حبّه وتقديره لبورقيبة أريد أن أنبّه الذين في فترة من الفترات غَضِبوا على الهادي البكوش و فيهم حتّى من خوّنه واتّهمه بالانقلاب على بورقيبة أنّ عليهم أن يقرؤوا كتاب الهادي البكّوش فقد أطنب في وصف الوضع الذي كانت عليه تونس وخاصة قصر قرطاج في تلك الفترة والتي كانت لا تُرْضي المخلصين للوطن والمحبّين لبورقيبة والمقدّرين لجهاده المتواصل منذ سنة 1934 إلى أن أقام دولة وطنيّة متجذّرة في تربتنا التونسيّة الأصيلة مع تفتّح على العالم للأخذ بأسباب التقدّم والازدهار .وقد يقول بعضهم هذا ما قاله في مذكّراته وبعد ما يزيد على 20سنة لتبرير مساهمته في التغيّر والانقلاب على بورقيبة وهذا الجواب قابل للنقاش وهو كلام لا يردّ كلّه لذلك فأنا اليوم سأحاول أن أستدلّ على حبّ الهادي البكوش لبورقيبة و حرصه على إنقاذه وإنقاذ الوطن ممّا آلت إليه الأمور بالحجّة والدليل القاطع الذي لا يقبل النقاش إلّا من مُتَعَنِّت مُصِرّ على الإساءة للرجل وهو في قبره .وسأعتمد فقد على بيان السابع من نوفمبر الذي نعلم اليوم بالدليل المادي (نصّ البيان بخطّه في كتابه)أنّ محرّره هو الهادي البكوش وكان قد حرّره في حيز زمني قصير جدّا اعتمد فيه فقط على تداعيات أفكاره وما يختزنه ذاكرته عن بورقيبة وعن الوطن فقد افتتح هذا البيان بقوله"إنّ التضحيّات الجسام التي أقدم عليها الزّعيم الحبيب بورقيبة أوّل رئيس للجمهورية التّونسية لا تحصى ولا تعد"هكذا قدّم بورقيبة للشعب التونسي فكانت بداية-مع ما للبداية من أهمّة عند السامع- مفاجأة للشعب الذي لم يكن يتوقّع هذا الاعتراف الواضح بمكانة بورقيبة في تلك اللحظات من التاريخ وبفضل بورقيبة على تونس في ظرف صعب ودقيق و بن علي يستعدّ لخلافة بورقيبة وقد لا يكون بن علي موافقا للهادي البكوش الذي صدح بأفضال بورقيبة على الوطن بدون تردّد ولا لبس لأنّه يؤمن بذلك ولا يقبل فيه المساومة. ثمّ يواصل بنَفَس فيه كثيرا من الاعتبار لبورقيبة فيقول:" لذلك أحببناه وقدرناه وعملنا السنين الطوال تحت إمرته" وهذه الجملة هي كذلك اعتراف أنّ بورقيبة أحبته أجيال من المناضلين وعملتْ تحت رئاسته وهو تأكيد على أنّ أفضال بورقيبة على تونس لا تحصى ولا تعدّ أمّا أوج ما أبداه الهادي البكوش من احترام و عدم المسّ من تاريخ بورقيبة ونضاله و فيه حفظ مقامه و تقدير لماضيه هو عندما أراد تفسير ما آلت إليه الأوضاع في تونس في تلك الفترة فقد انتقى الكلمات التي عبّر بها عن وضع بورقيبة لتفسير مقتضيات التغيّر فلم يقل أنّه آل لأرذل العمر وهي جملة توحي بالإهانة ولم يقل أصابه ما نعرفه مِنْ ما يُصِيب الشيوخ فلا بدّا أن يكون الهادي البكوش قد فكّر مليّا ليجد الجملة التي تعبّر عن وضع بورقيبة بدون أن يكون فيها استنقاص أو مسّ من بورقيبة فاهتدى إلى أَلْطف ما يمكن أن يقال في مثل حالة بورقيبة وهو"أنّ شيخوخته طالت " و هذا بالفعل ما تسبّب في التسيّب والتطاحن على الخلافة و المسّ من هيبة الدولة وكلّ ما عشناه من قرارات اتّخذتْ باسم بورقيبة في تلك الفترة وفيها ما يُحِيل على التلاعب بمؤسّسات الدولة كتعيّن الوزراء في الصباح ليقيلهم في المساء..... ثمّ واصل "الهادي البكوش" وهو يكتب هذا البيان ليبشّر بما هو وصحبه عازمون على إصلاحه وهو يستحضر الحاضر المسيء لبورقيبة وللدولة التي أقامها فقال:" كما سنحرص على إعطاء الدّولة هيبتها فلا مكان للفوضى والتسيّب ولا سبيل لاستغلال النفوذ أو التساهل في أموال المجموعة ومكاسبها" هذا وصف مختصر ولكنّه شامل ومعبّر لما كان يقوم به المحيط الذي عزل بورقيبة في القصر بعد إبعاد زوجته عنه ليتفرّد بالسلطة واستغلال النفوذ والعبث بمقدّرات الدولة وأموال المجموعة الوطنيّة .في هذا المستوى أريد أن أنبّه أنّي لا أتحدّث عن السابع من نوفمبر بل أنا أتحدّث عن السابع من نوفمبر كما كان يراه الهادي البكّوش الذي اعتبر التحوّل إنقاذ لبورقيبة أوّلا وأخيرا حتّى لا تنهار مكتسبات دولة الاستقلال على يديه بدون وعيّ منه وبأيادي استغلّت "شيشوخته" و هو كذلك إنقاذ للوطن الذي أحبّه بورقيبة وأعطاه بدون حساب متحمّلا السجون والخيانات ومحاولات التصفيّة الجسديّة حتّى يرى هذا الوطن عزيزا مكرّما يتباهى به بين الأمم . والذي يغيب عن الكثيرين من المتحمّسين سطحيّا لبورقيبة هو ما كان يعرفه الهادي بكوش ومن معه في تلك الفترة الدقيقة بحكم مواقعهم في الدولة عن طريق الاستعلامات وصرنا اليوم نعرفه من خلال كتاب قيّم ل"أحمد نظيف" فصّل فيه بالوثائق والحجج التي لا يتطرّق لها الشكّ وبشهادة القائمين على الجهاز الخاص للنهضة أنّ هذا الجهاز قد أعدّ العدّة وتغلغل في مواقع النفوذ وكان أتباعه المنتشرين في كلّ مفاصل الدولة جيش وشرطة وحرس قد وضعوا خطّتهم لاقتحام قصر قرطاج و الإستلاء على الدولة يوم 8أكتوبر 1987 وعندها لا نعرف ماذا كان سيكون مصير بورقيبة ولا مصير دولة بورقيبة. لا أرى للهادي البكّوش –كما عُرِفَ-أي هدف آخر من المساهمة في التغيّر إلّا إنقاذ بورقيبة والوطن لكن جرتْ الرياح بنا لا تشتهيه سفن البكوش فلم يُطَوّل كثيرا في الوزارة الأولى ليعزل ويحال على التقاعد السياسي وهنا يجب أن لا نُهْمل أنّ الجانب الهام من بيان السابع من نوفمبر والمتعلّق بالحريات والحقوق والحياة السياسيّة الديمقراطيّة قد توقّفَ في منتصف الطريق بعد بوادر مشجّعة لأسباب يضيق عن تفصيلها هذا المقام لكن سأقول كلمة فيها مختصرة وهي أنّ الأسباب عديدة و من الضروري أن تدرس بنزاهة ذلك لأنّ للنهضة يد في ذلك إذ اعتبرتْ أنّ بن علي سبقَها عندما كانت قاب قوسين أو أدنى وافتكّ منها الحكم ومنعها من إقامة دولة الخلافة لأنّ هدفها لم يكن الحريّات والديمقراطيّة كما كان يعتقد محمّد نجيب الشابي بسذاجته الذي جعلته يتضامن معها و هنالك في هذا الموضوع حقائق أخرى ستظهر في يوم من الأيام ...المهمّ أنّ ما توقّعه الهادي البكوش من حياة سياسيّة متطوّرة عندما كتب البيان لم ترى النور.فقد أزيح الهادي البكوش وعزل سياسيّا وبقيّ مدّة طويلة ف عزلته إلى أن لبّى داعي ربّه بعد أن أدّى ما عليه تجاه وطنه وسيكون إنشاء الله من الشهداء الذين قال فيهم تعالى هم أحياء عند ربّهم يرزقون.