لقد كتبنا مرار واكدنا بالحجة والبرهان، ان بلادنا أصبحت بلاد العجائب والغرائب، لها في نخبتها مآسي، لم يأت عليها الدهر، بل ازدادت رجعيتها،وطغا عليها المدح والاطناب، وأغلبها في كنف الدولة او الحزب الحاكم، من مدافعين على السلطة لانهم تمتعوا بفوائدها، واقلامهم انطلقت للتبرير والتفسير والتفتيش عن الحجج الواهية لأخطائهم، لان العاطفة والمزايا لا يعرف لهما حدود، و كتابة المسيرة الذاتية مهما كان عبقرية كاتبها تبقى ذكريات، وتخمينات يفندها التاريخ، ويرميها للمزابل ان ابتعدت على الحقيقة،لأنها كتبت لتضخيم "الأنا" وما يدور في جواره، ولم نجد فيها من يجيب على نكسات الحكم، و يعترف بتجربته الفاشلة في ادارته، والكل يرمي المسؤولية على الآخر، حتى ولو زعموا الانتماء الى الفكر البورقيبي الاصيل، وتظاهروا بالذود عنه، لكن تلك المراوغة لم تجد نفعا، ولن تنطل الحيلة على من تمعن في تاريخ تونس،لقد خان جلّهم أمانة الزعيم، وتصرّف بدون وعي، في ما كلّفهم به، ولم يكونوا البتّة أوفياء، لما دعوا اليه، من نكران الذّات، وعلويّة المصلحة العامّة، ولم يقتدوا بسيرة زعيمهم الفذ، ولا بنظافة يده وشاركوه بالقول، في ما كان يرمي اليه، من تشييد دولة مستقلّة، يسوسها القانون، ويطيب فيها العيش، والغريب في الأمر، انّ سلسلة المقالات الّتي صدرت عن مسؤولين كانوا في الدّولة، ترمي بإطناب في باطنها الى التهرّب من مسؤوليّتهمالتّاريخيّة، و حتّى بعضهم ذهب الى اغتنام فرصة انتقال أحد ركائز النّظام البورقيبي، أذكر خاصّة ابنه الرّوحي المغفور له الأستاذ محمد الصياح، طاب ثراه، الى جوار ربه، لينهالوا في تحريف التّاريخ، بتنوير دورهم في سيرهم الذاتية، في جميع المجالات الّتي مرّوا بها، وادعوا انهم من البناة الأوائل، وهم في الواقع بيادق لم يعرفوا للسيّاسة مرجعا، ولا للمصداقيّة سلوكا، وصلوا الحكم، فأداروه حسب أهوائهم، وتصرّفوا فيه بكلّ أريحيّة، لانّ غطائهم موجود في القصر، من وراء السّتار تعطى لهم الأوامر من أهل الحلّ والعقد، وهم أهل التّنفيذ، والطّاعة المطلقة، يتمارون في خدمة أولياء نعمهم، وبالرّجوع الى الواقع، كشفت الأيّام عن مدار بعضهم، وهم بالأحرى مدبّروا الانقلاب الطبّي الّذي لم يبح الى اليوم بأسراره، فالرّواية الّتي كيّفها اثنان ثالهم قضى نخبه في المهجر -رحمه الله- لم تكن بنفس النّغمة، ولا في نفس الاتّجاه، وكلّ ينكر دور صاحبه، في إدارة العمليّة، ومزاياهم على تونس، أن دفعوا بها من النّور الى الظّلمات الكثيفة، الّتي حكمتها، طوال عشرات السّنين، دكتاتوريّة لامثيل لها في تاريخها، صفّ من الموالين ترعاهم رعاية الرّئيس المخلوع وحاشيّته، وتدفّق عليهم الأموال، بدون حدود، حتى أنّهم ذهبوا الى تصوّر "تونس الغد"، وهوما عاشوه بين الحقيقة والخيال، اعانوهم على الاستئثار بما بنته أجيال الاستقلال، وانتحلوا منهم آراءهم، واستولوا على المضمون والشكل من انجازاتهم، و مكنوهم من الاستيلاء على حزبهم، واتلاف معظم وثائقهم، بدون رقيب يذكر او نظير يرشد، أو يلفت الانتباه، كانوا مبدعين في المضايقات، مختصّين في الدّسائس، وقد نالنا منهم الكثير، قوامهم التّبجّح والافتخار الافتراضي، اغتصبوا المقود و غيّروا اتّجاه السّفينة الى منعرج غير معلوم، لم يدركوا، عن لا وعي مساره، فعمّت الكارثة منذ بداية الانقلاب، وتوالت سنوات القهر والفقر، و"المرور سكوتا بين المسامير" الى ان منّ الله بالانفراج، و كانت لهم المسؤوليّة في ذلك، لأنّهم لم يحسنوا التّصرف في الموروث، وللتّاريخ معهم، أشدّ الحساب، ولو نظرنا بإيجاز آخر ما صدر من السير الذاتية، كتاب الوزير الأول الذي يدعون الى قراءته احد رفاقه، الذي يفسر بيان الانقلاب حسب أهوائه،كتاب المرحوم الهادي البكوش، -واذكروا موتاكم بخير-وقد اتينا على جزئياته، وصاحب الكتاب على قيد الحياة، ولم يجبنا على مآخذنا، وبينا اننا لم نعثر فيه على كشف أسرار غير معروفة، أو أخبار صحفيةّ مؤثّرة، رغم انه واكب القصر ودواليبه، وكان فيه مقرّبا ومبجّلا، تذكرنا أن الكاتب هو وزمرته، من سجن الزّعيم في عقر داره، أمّا عن مضمون الكتاب فحدّث ولا حرج وبينا للكاتب، عندما كان على قيد الحياة، ان كتابه هو عبارة عن ترجمه ذاتيّة، يذكر فيها بتقلّباته الشخصية في الحكم، ودوره في الانقلاب على بورقيبة، والغريب انه هو من خاطر بشبابه من أجل تونس لتحريرها من الاستعمار، والمرور بها الى عصر الحداثة والرّقي، وآخذناه على عدمتوضيح ما اكّده في منبر من منابر الحوار انجماعتة فكرت في "تسميم بورقيبة للتّخلّص منه"، و أيضا على اغفاله عن الإدلاء ب" ظروف نقل الزّعيم و عن قرار وضعه تحت الإقامة الجبريّة"، ولنذكر لاحد رفاقه،الذي يحاول جاهدا التعليل ووجاهة الرأي،انه مثلا لا تمرّ صفحة من الكتاب بدون ذكر محمد الصياح وما يكنّه له من عداء، بدون أيّ مبرّر يستحقّ الذكر والاعتبار، ومن الغريب في الكتاب أيضا ان الكاتب لم يتطرّق بعمق الى تجربة التّعاضد التي كان يدّعي أنّه من روّادها، فيغيب إذا في صردها التّحليل الموضوعي، والدّلائل العلمية، وتنطبق الملاحظة الأخيرة، على كلّ ما يؤكده الكاتب، و يعتبرها حقيقة اذ هي منقوصة، ولا أعتقد ان سرد الاحداث والتباهي بها بدون أدلّة علميّة موثّقة، له قيمة للتاريخ،بل تبقى تجربة فرديّة، لا تفيد لا من حيث المنهج، ولا من حيث البحث، لأنّها في معظمها غير نزيهة، ينقصها البعد التّاريخي، ويغلب عليها حبّ الأنانيّة، وهي روايّة أو صفحات من ذكرى بحثا عن المغفرة عن الأخطاء المرتكبة، في حق شعب آمن بمصيره، تحت قيادة فذة، قوامها "الصّدق في القول والاخلاص في العمل"، ولم يستخلص الكاتب مع الاسف من تجربته للانقلاب، و ما غاب عنه عند تولّيه المسؤوليّات هو أنّ أرضيّة نجاح الخيار الديمقراطي، على أسس قوامها العدل والشفافية، واليد المفتوحة للغير، والعمل على انقاض البلاد من الوحل التي هي فيه، لا يمكن أن تكون على ايدي من كانت حقائقه مبتورة، بعيدة كل البعد عن الواقع، ولعمري أن السير الفردية التي يراد منها تصفية الحسابات، لا تهيّأ الى المشاركة في الإصلاح الجماعي، لمن يريد الخير للبلاد جميل أن يكون هذا المناضلعند مناصريه مخلصا يدّعي الزّعامة، مظهرا تلك الشّخصيّة المريحة الّتي بيدها الحلّ والعقد، متناسيا أنّ أهل جيله يعرفون واقعه عن كثب، وما آلت إليه تونس من دمار، لم توضّح في كتابه،ورجائي للّذين مارسوا الحكم ومسؤوليّته، كمثله، التّخلّي عن الاطراء، وترك أجيال أخرى، تواصل النقد، وتواكب العصر، وتحقّق أهداف الثورة، وتكون بحقّ قدوة يستفاد من تجربتها، ودور الصحّافة وغايتها ليست تمجيد السّير الذّاتيّة مهما كان كاتبها، لأنّها في أغلب الأحيان، فيها الكثير من الاتّهامات بدون بحث ولا مؤيّدات، ويمكن وصفها بالمفبركة، بل عليها المطالبة بفتح المحفوظات للعموم، ليركن أصحاب السيّر الى الصّمت، أغلبهم خانوا عهودهم،وتنكّروا لمبادئهم، وحقدوا على أهلهم، وأخذوا من التظاهر في الشاشات مطيّة، لتنوير مساراتهم، ولو كان للمتطفّلين على التّاريخ دراية، لكان من الأجدر بهم، تركه للمؤرّخين ذوي الاختصاصات العلميّة الرّاسخة، ولا يمكن اليوم لاحد الركوب فوق القطار الذي يجري مهما كانت عقائده، لانشباب الشعب بذكائه الحادّ، وطموحه المشروع بالمرصاد، يعرف حقّ المعرفة من خان الامانة لكن المصيبة العظمى،اذا جمع حاكم ما ازدواجية اللغة وعدم الصوابفي سلوكه إلى أين يقود شعبه؟ ما هي الخيارات المتاحة للشعوب ان كان المصير مظلم؟ ماهي البدائل المتاحة لنخبتها لتوجيهها الى الافضل؟والسؤال المطروحكيف يمكنلمجلس نواب الشعب القيام بمهامه-مراقبة الحكومة والانصات إلى مشاغل المواطن، ورفع مطالبه إلى الجهات المعنية، والتدخّل لديها للاستجابة لها، والطلب بتسويتها- وهو منشغل بالبحث عن اقتناء جواز ديبلوماسيبغير موجب، ولو اقتراح قانون يمنع من ليس له جنسية غير التونسية تحمل مسؤولية في هرم الدولة، كما هو معمول به في الجزائر الشقيقة،لنال الاستحسان والتبجيل من الناخب الذي ادلى له بصوته- لان في ذلك رمز للولاء لتونس لا غير؟