صدر عن دار الجنوب للأستاذ نور الدين الدقي كتاب بعنوان "وسيلة بورقيبة اليد الخفية" قرأته باهتمام أعادتني لسنوات عشتها وكتبت عن المعنية به 11 حلقة نشرتها بالصريح الورقية يوميا ومتتابعة منذ 16 أفريل 2014 رويت فيها ما كنت عرفته عنها ومنها، ثم جمعتها مع غيرها في كتاب خاص بي نشرته في أوت 2015 بعنوان "ذكريات وال في الزمن البورقيبي". ولكن هذا الكتاب الجديد الذي اخترت ان أعلق عليه بهذه الدردشة، كان يختلف عما كتبته شكلا ومضمونا، لأنه صادر عن عالم مختص في التاريخ المعاصر وطبق المنهجية والقواعد التي لا امتلكها أنا ولا غيري ممن كتبوا مذكراتهم أو ذكرياتهم التي اعتمدوا فيها على الذاكرة والرواية المجردة أو قصاصات الجرائد السيارة وحتى المختصة منها. ومما يزيد هذا الكتاب قيمة، هو إثبات لما جرى في فترة مهمة، تتجاوز نصف قرن من تاريخ حكم بورقيبة ومما سبقها من نضال وكفاح وما تلاها من انقلاب عليه ذات ليلة ووضعه بمدينة المنستير تحت إقامة محدودة. يمثل ذلك الكتاب مصدرا مهما وموثوقا لما كان يدار من وراء جدران البيوت المغلقة، لتلك الفترة وما جرى فيها من تحولات وهزات، شارك فيها اقطاب الحكم والسياسة، وكيف تمكنت تلك السيدة التي كانت لا تملك درجة عليا من التعلم لتكفي، إذ أنها لم تتجاوز المرحلة الابتدائية بذكرها هي، لقد تمكنت من اختراق كل الحواجز والمواقع بحكم دورها المحوري الذي اكتسبته منذ فترة الكفاح والمشاركة فيه بقدر ما، وذلك بوقوفها دائما إلى جانب الزعيم بورقيبة وفي كل معاركه والمحن التي مر بها، ما نعرف البعض منها ونجهل الأكثر، مما بقي إشاعة تتداولها الالسن والمجالس بدون ان نتأكد منها الا في هذا الكتاب الخاص بها، الموثق والمدعم بالمصادر، وتحت رقابة ومسؤولية مؤرخ بارز مختص ومحترم جدا. كان الذي قراته في ذلك الكتاب قد أتى على فترة مفصلية من تاريخ الحركة الوطنية التحريرية وما تلاها من خلافات ومنازعات وكل ما جرى فيها ومفصلا في زمن حكم بورقيبة. لقد عشت تلك الأحداث شخصيا، وشاركت في البعض منها، ومما ذكره كاتبه بتفصيل مشبعًا، زادني فهما، لما جرى وما بقي نقاط استفهام، لي ولأمثالي، حتى للذين كانوا أكثر مني قربًا وأعلى مسؤولية، من وزراء وولاة ومدراء ومسؤولين في شتى الدرجات، وكتب البعض منهم مذكراته أو ذكرياته ونشرها، كما فعلته أنا في الكتاب الذي اشرت اليه سابقا في الطالع. لقد تيسر لي ذلك كله بحكم المسؤوليات الصغيرة والمتوسطة والعليا، من رتبة معتمد إلى وال أو للولاة أو نائب بمجس الأمة أو عضو باللجنة المركزية في الحزب الحاكم أو محام تعهدت بقضايا ذات قيمة وعلاقة بالسياسة، ومنها قضايا الوزير الأول الأسبق محمد مزالي عليه رحمة الله وكل أفراد عائلته وغيرهم من الوزراء الآخرين في تلك الفترة. أما فيما يخص الماجدة وسيلة بورقيبة، موضوع هذا الكتاب، فقد سمحت لي الظروف القرب منها، وكانت في بعض المرات تحملني رسائل لمحمد مزالي لما كان وزيرا اول، والرد عليها منه، وقع ذلك بين سنوات 1980 و86 ومدة حكمه وحتى بعدها لما كانا يقيمان بباريس في الغربة بعد طلاقها وهروبه، واستمر ذلك حتى بعد عودتهما نهائيا لتونس وحتى وفاتهما، عليهما رحمة من الله، وعلى جميع المسلمين. لقد شدني ذلك الكتاب شدا، وقرأته بشغف ومحبة، وقررت أن أكتب لكم عنه بما يتيسر، وذلك للفت انتباه من يتابع منكم السياسة ويريد ان يعرف أكثر عن تلك الفترة وعن الماجدة وسيلة بورقيبة. كان كاتبه صادقا نقله وموضوعيا في احكامه، حسب تقديري، وكم اعتنى بدقائق الأمورفيه، والصبر على البحث والتدقيق والتنقيب في مواقع حفظ الذاكرة قديمها وحديثها، في تونس وفي خارجها، وحتى ما جاء في برقيات (وكي ليكس) أن لزم الأمر، وباختصار شديد أقول بأني جدت فيه كل ما كان مخفيا وأزيد مما كنت عرفته عنها. لقد كشف لنا الغطاء عن خبايا تدبير المواقف، وتصعيد المسؤولين للمراتب وتحطيم ممن يخرج عن الدائرة أو لا يكون لها مفيدًا. لقد غطى بذلك فترة مهمة من تاريخنا، ما زلنا نذكرها بحسرة، وكشف لنا الغطاء عنها بالحجة والدليل، انها فترة استمرت لنصف قرن، تولاها عالم مختص في التاريخ المعاصر، وبلغة فرنسية سلسة تشد القاري الذي يجد فيها متعة. كان ذلك كله في كتاب متوسط الحجم به ملاحق ومراجع وصور تذكر القاري بتلك الفترة الثرية بالأحداث من تاريخ تونس. إنه يمكن اعتبارهوثيقة مرجعية لمسيرة امرأة استثنائية ملأت الدنيا لقد كلامًا وإشاعة كان أكثرها حقيقة. لقد تخطت كل العقبات والعقلية الاجتماعية لذلك العصر، وتخلصت من كل القيود التي كانت تعيق المرأة من المشاركة والحضور في الشأن العام وخاصة منه السياسي، ووصلت لمبتغاها، وخدمت تونس في فترة دقيقة كانت لازمة. كنت قلت عنها في ذكرياتي التي اشرت اليها سابقا في كتابي: لقد كان علينا ان نوجدها لو لم تكن قد وجدت بعد في حياة بورقيبة، لأنها كانت الوحيدة التي تقدر على ترويضوتهدئة بورقيبة صاحب الطبع الحاد والمزاج الاستثنائي؟ لقد وصلت إلى أعلى مراتب السلطة بدون أن تتقلد لأي صفة أو منصب رسمي، سوى وجودها لجانب بورقيبة،رفيقة وزوجة. كنا نراها دائما حاضرة بجانب الزعيم، زمن كفاحه، أو في سجنه، أو ابعاده، أو في المسؤوليات العليا وفي زمن حكمه لتونس. كانت صندوق أسراره وحبه وغرامهوهيامه، ولم يكن يخفه عنا، قال لي محمد المصمودي ذات مرة بان بورقيبة لو خير بينها وبين الحكم، لأختارها هي. كانت بالنسبة له العنصر الملهم والملطف لطبعه الانفعالي، وكم من قرار أخذه كانت وحدها الأقدر على التأثير فيه سلبا أو ايجابا وخاصة لما تنسد كل المنافذ. لقد عدد الكاتب تلك المواقف، بترتيب زمني وحسب الأهمية، وكيف كان تأثيرها في السياسة بارزًا في أيام الصفاء بينهما ولم يكن يقدر عليه أحد من خصومه. وأسوق بعض المواقف التي بقيت مسجلة ومنها: رد الأوسمة للباي بعد قبوله لإصلاحات (فوازير)، أو معارضة بن يوسف لاتفاقيات الحكم الذاتي، أو إعلان الجمهورية، أو إبعاد بن صالح من زعامة الاتحاد في المرة الأولى، ثم إفسادها لسياسة التعاضد وتحييده نهائيًا من الحكم والسياسة، وكذلك مواقفها من مؤتمر المنستير الأول وإفسادها لاتفاقية الوحدة مع القذافي، ثم كيف حالت دون تولي محمد الصياح للوزارة الأولى، وقدمت عليه محمد مزالي، الذي انقلبت عليه لاحقًا بعدما بدأ يبتعد عنها، كما كانت السبب في استقبال القيادة الفلسطينية بتونس بعدما سدت عليها أبواب دول المشرق العربي. وكم من المواقف الأخرى التي لا يتسع المجال لتعدادها في هذه الدردشة القصيرة. لذا أنصح من يريد المزيد، أن يرجع لذلك الكتاب القيم، والذي بقراءته مثلما فعلته، سيفهم كل الخفايا وسوف لن يندم. وحتى لا أتوسع أكثر أقول في الختام، بإنه لا يمكن لي ان أعبر عن إعجابي وتقديري لكاتبه الاستاذ المتميز نور الدين الدقي الذي كنت استمعت اليه اخيرا في حفل تقديم كتاب السياسة الهادئة للمرحوم الباهي الادغم. تونس في 10/03/ 2020