تفاعل صديقي أبو ذاكر الصفايحي مع ما كتبته حول الاستهداف الذي تعرض له وزير الصحة عبد اللطيف المكي بعد الدموع الصادقة التي نزلت من عينيه خلال الندوة الصحفية التي قام بها لتقديم آخر مستجدات فيروس كورونا بعد أن شاهد الانفلات وعدم الانضباط الذي ظهر في الأيام الأخيرة في بعض الأحياء والشوارع وكيف أن كسر الحجر الصحي من طرف بعض المتهورين من الممكن أن يفشل كل العمل الكبير الذي قام به فريق القيادة المكلف بإدارة الأزمة في وزارة الصحة من أجل كسر سلسلة انتشار العدوى والتحكم في تقدم الوباء وكيف أن الآلة الاعلامية الحاقدة والموجهة قد قامت بهرسلة السيد الوزير واتهمته بشتى الأوصاف والنعوت ونست أن الكثير من الشخصيات كانت قد تعرضت في مشوارها السياسي والمهني إلى مواقف عرضتها إلى البكاء غير أن لا أحد قد انتقد هذه الانفعالات العاطفية أو علق سلبيا على هذا السلوك وقد استشهدت في هذا السياق بعدة أمثلة كان مثال بكاء الزعيم بورقيبة واحدا منها وقد رأي صديقي الصفايحي أن يعلق على هذه الصورة الأخيرة وعلى ما ذكرت من كون بكاء الزعيم بورقيبة كان في أغلبه مفتعلا ومصطنعا وموظفا وليس دائما عفويا وكتب في مقاله يقول " ... وخلاصة القول وزبدته وعصارته أن بكاء بورقيبة كان كله أو أغلبه صدقا وحقا وقد يغلبه كثيرا حديثه عن ظروفه البائسة والعائلية وخاصة عن حالة أمه .. أما عن خطب بورقيبة المتعلقة بمشاكل الشعب وأسلوب وبرامج إصلاحه ونمط سياسته فلم يكن بورقيبة يتخللها بالبكاء و لا هم يحزنون بل كان يظهر فيها حكيما حازما وكأنه في قوة وصلابة هرقل وكسرى أو شمشون ..." في الحقيقة بكاء بورقيبة لم يكن هو الموضوع الأصلي لمقالي وإنما كان شاهدا ومثالا على سياسة الكيل بالمكيالين التي يتبعها البعض خاصة إذا كان الباكي خصما سياسيا وتحديدا شخصا لا يشبه من هو اليوم متحكم في المشهد الإعلامي ولكن بما أنا الصديق الصفايحي قد حول وجهة إهتمامي المنغمسة هذه الأيام كليا في الجائحة التي ألمت بالبلاد وتداعياتها وأعادني إلى أجواء الجدال و الصراع الثقافي والفكري الذي كان مسرحها جريدة الصريح الورقية فإنه لا بأس من التذكير بأن الحديث عن شخصية الزعيم بورقية وتجربة حكمه يتطلب استحضار أقوال من عاصروه وعايشوه والتصقوا به واقتربوا منه ويحتاج إلى استجلاب صورة بورقيبة الممثل والمسرحي حيث يذكر الوزير محمد المصمودي وكان أحد أبرز المقريين منه وأحد الذين التصقوا به عن قرب وخبروا دقائق حياته أن الزعيم الحبيب بورقيبة كان منذ صغره مولعا بالرقص وكان يقف أمام المرآة يرقص ويغني وينادي أمه فطومة بلهجة تونسية .. ويواصل المصمودي فيذكر أن بورقيبة كان مولعا منذ نعومة أظفاره بالمسرح جريا على خطى شقيقه محمد مساعد التمريض بالمستشفى الصادقي الذي كان مغرما بالمسرح منذ أن بعث فرقة " الشهامة " مع مطلع الحرب العالمية الأولى وهي الفرقة التي ستنصهر فيما بعد مع فرقة أخرى تحت إسم " المسرح العربي " الذي كان الحبيب بورقيبة الشاب مواظبا على متابعة أعمالها وقد واصل فيما يروي هو عن نفسه إلى حد المشاركة فيها كممثل و تقمص دورا في مسرحية مع الممثلة القديرة " حبيبة مسيكة " وقد كان في المسرحية مشهد قبلة أصر بورقيبة على أن تكون حقيقية وهذه القدرات المسرحية ستتواصل وتنمو مع الزعيم وسوف تتجسد خلال الفعل السياسي على ركح الحياة العامة وقد اعترف " الجنرال ديقول " بهذه القدرات المسرحية لبورقيبة خلال مقابلة جمعته معه في سنة 1958 في جهة rambouillet . ويذكر المصمودي بأن موهبة بورقيبة المسرحية والقدرات التي يتوفر عليها في مجال التمثيل قد تنامت مع القدم في ممارسة العمل السياسي من ذلك أن بورقيبة كان يستعد لأداء خطبه ويتدرب على أدائها حينما تكون الخطبة على قدر من الأهمية فهو فيما يروى عنه قد استعد استعدادا خاصا وقام بتكرار أداء خطابه الشهير بأريحا في غرفته ليلا بالنزل أمام المرآة وكان يقوم في كل مرة بتعديل حركاته وإيماءاته وربطها بالمعنى المراد تبليغه ويؤكد الصافي سعيد في كتابه " بورقيبة سيرة شبه محرمة " أن رفاقه في " برج البوف كانوا يقولون عنه " كان لا يتعب من الكلام مثلما لا يتعب من موجات الغضب الهستيرية وكان بعد برهة من الصياح والهياج وتمزيق الثياب وبعثرة الأشياء يعود إلى هدوئه ومزاجه وقد لاحظ صديقه الماطري خلال هذه الموجات من الانفعالات أن بورقيبة لا يمزق إلا الثياب التي لم تعد مهمة ولا يكسر إلا الأشياء الصغيرة والتافهة " وإذا ما أجملنا القول فإنه لا شك أن قدرات بورقيبة على مسرحة أدائه خطابا وحركة جلية للعيان كما ذكر jacques guerif رئيس تحرير جريدة لوموند الفرنسية في مقابلة صحفية جمعته معه حيث قال " لقد اكتشفت أن بورقية خلال خطبه كان يبكي في كل مرة يتحدث فيها عن ماضيه كسجين ولاجئ أو عن وفاة والدته فطومة ... لقد اكتشفت أنها تجربة في الممارسة قائمة على مسرحة المشهد وتوجيه الأداء وهي استراتيجية كان بورقيبة يتبعها في اقناع الجمهور إلي حد الهينة ولا شك أنها مسرحة للفعل تعكس قدرات واسعة في إنتاج البناء الدرامي والإنتاج المسرحي خطابا و إيماء لتكريس زعامته ." في سنة 1959 قام الماريشال تيتو بدعوة بورقيبة إلى زيارة صداقة إلى يوغسلافيا ولبى بورقيبة الزيارة وذهب إلى يوغسلافيا في وقت كانت فيه تونس تشهد عديد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية زادت عليها الفيضانات التي اجتاحت البلاد التونسية وتسببت في إتلاف المحاصيل الفلاحية وشردت عديد السكان وجعلتهم بلا مأوى في الشتاء القاسي. قام الماريشال تيتو بإقامة مأدبة غداء على شرف الزعيم بورقيبة والوفد المصاحب له وبدأ الجميع يأكل إلا بورقيبة فسأله الماريشال تيتو تفضل سيدي الرئيس بالأكل فبقي بورقيبة ينظر إلى الماريشال تيتو وقد إحمرت عيناه وامتلأت بالدموع التي حاول حبسها ثم انهمرت فجأة وأجهش بالبكاء فانتفض تيتو من كرسيه ووضع يده على كتف بورقيبة وسأله أيبكي الزعيم الذي حير العالم بقوة شخصيته وصلابته وحنكته السياسية الجبارة ؟ فقال له بورقيبة نعم يا صديقي لقد عز عليا أن آكل من هذه الخيرات التي تكرمت بها عليا وشعبي يتذمر جوعا لا رغيف خبز ولا سقف يأويه لقد بكيت من أجل شعبي فبكى معه الماريشال تيتو ومنذ اليوم الموالي تدفقت المساعدات الغذائية والألبسة والأغطية ومواد البناء التي ساهمت في تشييد عديد المنازل بالبلاد التونسية إنها قدرات فائقة في التأثير و كسب عطف وصداقة الآخرين. ما أردنا قوله من خلال هذا سرد القليل من تاريخ بورقيبة السياسي وما توفرت له من قدرات سياسية في احتواء الشعب وتكريس هيمنته وزعامته عليه بكل الوسائل ومنها استعمل موهبته في التمثيل وما اكتسبه من فن المسرح ما جعله يتحول إلى رجل سياسة فذ بقدرات ممثل بارع هو أن الزعيم بورقيبة بشهادة كل من كان يعرفه كان يعد جيدا خطبه ويتدرب عليها مرارا مما يجعل منها خطبا في غالبيتها مدروسة و معدة مسبقا بإحكام وأن بكاءه لم يكن في الغالب كما قال الصفايحي كلما تذكر أمه فطومة أو تذكر محن السجن والمنفى وإنما البكاء عند بورقيبة كان أسلوب هيمنة واحتواء للشعب وطريقا من طرق تكريس زعامته واكتساب عطف الخارج له . ما أردنا قوله هو إذا أردت أن تعرف بورقيبة فتعرف أولا على موهبته في التمثيل والمسرح. فهل كان بورقيبة كسرى وهرقل وشمشون أم كان ممثلا بارعا في ثوب سياسي فذ ؟