كتب اخونا وصديقنا نوفل سلامة ليقول (ان بورقيبة كان يعد ورقة صغيرة يكتب فيها عناوين المحاور التي ينوي الحديث فيها وبين العنوان والعنوان كان يكتب كلمة دمعة ...وهو اسلوب كان بورقيبة قد درج عليه في الكثير من خطبه التي كان يتكلم فيها عن التخلف والتنمية والفقر والجهل وكل المظاهر السلبية التي تجعل الشعب لا يتغير...) ولما كنت من المواظبين على متابعة خطب بورقيبة لما يقارب الربع قرن من السنين فانني اريد بهذا المقال ان اقدم شهادتي في هذه المسالة مما رايته بعيني ومما سمعته باذني ليس مما قيل او مما يقال فلعلي بذلك افيد الشباب المولعين بتاريخ بورقيبة خاصة وبالتاريخ الوطني بصفة عامة في هذا الجيل فاقول اولا ان التونسيين في تلك الفترة التاريخية الطويلة من حياة بورقيبة لم يروه ولو في خطبة واحدة من خطبه الحماسية التي قد يتخللها او لا يتخللها البكاء قد نظر في ورقة صغيرة او في جذاذة فيها رؤوس اقلام تذكره بما سيقوله في المبتدأ و في الختام وانما كان يخطب في الناس ارتجالا وليس امامه شيء غير كاس من الماء وهو ينظر الي الحاضرين بحدة الاسد القوي المتين وبرباطة جاش نادرة او يرفع راسه من حين الى اخر وقد يقلب نظره من اليمين الى الشمال ومن الشمال الى اليمين وقد يحرك يديه يمنة ويسرة او يرفعهما الى السماء في كثير من الاحيان وكانت قسمات وجهه تتغير بسرعة عجيبة غريبة وكان فمه يلفظ الكلمات باساليب فنية مؤثرة معبرة عديدة وخلاصة القول في وصفه وهو يخطب ان يقول فيه المشاهد والسامع انه ممثل ساطع بل فنان متكامل بل ساحر متمكن وبارع اما عن بكاء بورقيبة فلم يكن ابدا في الخطب التي يتحدث فيها عن التخلف وعن التنمية والفقر او الجهل وغيره من المظاهر السلبية وانما كان كل بكائه وكل عبراته كل دمعاته تغلبه اذا تكلم واذا تحدث عن حياته وظرفه العائلية الشخصية اومعاناته وما قاساه من عذابات في مرحة نضاله التاريخيه ومثال ذلك انه كلما تحدث عن امه يبكي متذكرا تعبها من اجل تربية ابانئها وكان يبكي ايضا اذا تذكر بعض ما شاهده من بذخ ونعيم حياة البايات وانني ما زلت اذكر الى اليوم كيف حدثنا عن احد البايات اذ قال انه راه يوما في موكب رسمي ولاحظ ما كان عليه من البذخ والرفاه فبكى وهو يقارن بين بحبوحة عيش البايات وبين حاله وحال اغلب افراد الشعب الذين قد لا يجدون حتى الفتات ولعل بورقيبة قد نسي في ذلك الخطاب ان عيشته وقد اصبح رئيسا للدولة لم تتغير كثيرا عن نمط حياة ومعيشة البايات وهو ما جعل كثيرا من شباب تلك المرحلة ينتقدوه اشد الانتقادات ويفكرون في القضاء على حكمه وعلى حزبه في اسرع الأوقات... كما كان بورقيبة يبكي حقا وفعلا وليس كما قيل في بكائه انه ذر رماد في العيون عندما كان يتذكر ويحكي بصدق وحزن عن السنوات التي قضاها في المنافي وفي سجون الفرنسيين بينما كان غيره كما يقول نائمين في بيوتهم متنعمين ومطمئنين وكان لا ينسى ابدا وبتاتا ان يقول في اغلب خطبه وان يكرر ان ما عاشه من ظروف الكفاح المريرة العويصة الشديدة قد جعلته حقا يستحق ان يكون الزعيم الأوحد والمجاهد الأكبر بصفة ثابتة اكيدة وقد كان معجبا اشد الاعجاب بتلك الأغنية التي تتغنى بكفاحه ويشكر من يغنيها له في كل لقاءاته واجتماعاته والتي تقول(يا سيد الأسياد يا حبيبي بورقيبة الغالي يا محرر البلاد محال ننسى فضلك من بالي) فبحيث وفي خلاصة القول وزبدته وعصارته ان بكاء بورقيبة كان كله او اغلبه صدقا وحقا وقد يغلبه كثيرا في حديثه عن ظروفه البائسة العائلية وخاصة عن حالة امه تلك المراة التي يصفها دائما بالمراة الضعيفة الصابرة الشاقية والتي جعلته ظروفها يقرر تحرير المراة التونسية من ظروفها البائسة القاسية اما عن خطب بورقيبة المتعلقة بمشاكل الشعب واسلوب وبرامج اصلاحه ونمط سياسته فلم كن بورقيبة يتخللها بالبكاء ولا هم يحزنون بل كان يظهر فيها قويا حكيما حازما وكانه في قوة وفي صلابة هرقل او كسرى او شمشون ولعل هذا ما جعله ينجح في حكم وفي سياسة التونسيين اذ لم يروا منه يوما خطبة فيها ضعف او تراخ يجعلهم يظنون ويعتقدون انه رئيس ضعيف عاجز مهين وعلى كل حال فبعض خطب بورقيبة مازالت محفوظة في الأرشيف ويمكن العودة اليها لمن اراد ان يعرف حقيقة ودواعي واسباب بكاء بورقيبة وهذا بحق يمكن ان يكون موضوعا جديدا هاما وفي نفس الوقت نادر وطريف...