سمح انتشار فيروس كورونا في العالم وما خلفه من أسئلة محرجة على العقل العلمي وعلى المعرفة البشرية وما نتج عنه من تداعيات مؤثرة على السياسات العمومية لحكومات العالم وتأثير آخر على حياة الناس وعيش الشعوب بعودة الفلاسفة إلى صدارة الأحداث وخروج المفكرين الذين يشتغلون على علم المستقبليات والتفكير الاستراتيجية والتنظير لما هو آت وقادم إلى العلن بعد أن تركوا مكاتبهم وبدؤوا في الحديث عن صورة كوكب الأرض بعد نهاية جائحة كوفيد 19 وحال البشرية بعد أن تتخلص من هذه الجائحة الوبائية ومن بين هؤلاء المنظرين المفكر والاقتصادي الفرنسي وعالم الاجتماع الذي شغل منصب مستشار سابق للرئيس فرانسوا ميتران " جاك أتالي " الذي قدم تصورا ورؤية مستقبلية لما سيكون عليه الوضع العالمي بسبب ظهور فيروس كورونا وتداعياته العميقة التي ترتب لحدوث تغييرات جوهرية تلامس كل ما كان موجودا قبل انتشار هذه الجائحة وأهم هذه التغييرات إعادة تشكيل منظومة العولمة بكل مكوناتها الاقتصادية والتجارية والقيمية والفكرية ومراجعة ثوابت المجتمعات الاستهلاكية الكبرى بما يعني أن العالم حسب هذا المفكر سوف يشهد ولادة جديدة تخص النظرة إلى الدولة والحكم والسلطة والسياسة والآليات التي يقوم عليها التنظيم المجتمعي وخاصة إعادة تشكيل الفكر والثقافة والنظرة إلى الحياة التي سوف يغلب عليها الفكر التضامني وتقديم الاهتمامات الاجتماعية القائمة على مبدأ التعاطف والتآزر عوض البنى القديمة من إيمان وقوة وعقل . يعتبر جاك أتالي أن النتائج الوخيمة التي خلفها هذا الوباء على المنظومة الصحية والاقتصادية والخسارة التي تكبدها العالم بسببه على جميع المستويات والتهديد الجدي الذي يطرحه بانهيار كل الذي بناه الإنسان المعاصر على مدار عقود من الزمن يفرض إعادة التفكير في كل شيء ويفرض كذلك أن ننظر بعيدا في كل الأشياء التي أمامنا وخلفنا حتى نفهم إلى أين يسير العالم ؟ فمن المعلوم أن الأوبئة الكبيرة التي ظهرت في التاريخ قد غيرت العالم وكان لظهورها تأثير عميق في حدوث تغييرات جوهرية داخل أنظمة الحكم والممارسة السياسية وكذلك داخل الثقافات والأفكار التي تبنى عليها الأنظمة فالطاعون الكبير الذي ضرب القارة الأوروبية في القرن الرابع عشر والذي أودى بحياة ثلث سكانها كان سببا في القيام بمراجعات جذرية لمكانة الدين في حياة الناس ومكانة رجال الدين السياسية حيث كان المجتمع قبل هذا الوباء يحرسه الدين ورجال الكنسية وبعدها حدث تغيير كبير حيث أيقن العالم الغربي أنه في حاجة إلى إنشاء أجهزة للشرطة لحماية أرواح الناس بدل كهان المعبد وهذا التحول هو الذي ساهم في ولادة الدولة الحديثة ومعها ظهر روح البحث العلمي كنتيجة مباشرة لصدمة الوباء الذي جعل أوروبا تقف على حقيقة حالها وتستفيق من تخلفها وخاصة تكتشف مأساتها الصحية والاجتماعية وتستنتج أن وراء فقر شعوبها وعجز دولها جملة من المنظومات والبنى المتهرئة هي من كان وراء هذا العجز عن انقاذ أرواح الناس فكان التغيير أن حل الشرطي مكان الكاهن ومباشرة بعد مغادرة القرن الثامن عشر وما حصل فيه من أوبئة انتقلت أوروبا من سلطة الشرطي إلى سلطة الطبيب وأوكل الأمر للعلم الذي عد أفضل وسيلة لحماية الإنسان وتنظيم الحياة ومواجهة الموت وهكذا تم الانتقال خلال يضعه قرون من السلطة القائمة على الايمان إلى السلطة القائمة على احترام القوة قبل أن نصل إلى سلطة العلم والمعرفة وهي أكثر السلط فاعلية لكونها تقوم على احترام القانون وهذا يعني أنه كلما ضربت جائحة كبيرة كوكب الأرض إلا وقامت بإثبات ضعف ووهن المنظومات القائمة وكشفت زيف ما وصل إليه الانسان من معتقدات وفرضت مراجعة لكل آليات السيطرة التي يتأكد في كل مرة أنها قاصرة في الحيلولة دون موت أعداد لا تحصى من البشر ومع هذا الفشل يحصل الخلل في العلاقة بين الشعوب وحكامها و تظهر أصوات تطالب بالتغيير وتبديل السياسات. وهذا فعلا ما يحصل اليوم في كوكبنا الأرضي بعد ثبوت عجز السلطات القائمة في الغرب على تجنب موت الآلاف من البشر بسبب هذه الجائحة التي فتكت بالبشرية وحصدت إلى حد الآن أكثر من ..... وبعد أن يتأكد فشل كل منظومات الحكم ومعها فشل كل الأسس النظرية وكل السلطة الايديولوجية التي كانت عاجزة عن التحكم في الوضع الوبائي الذي أدى إلى حصول انهيارات كثيرة أهمها المنظومة الصحية وفقدان مواطن الشغل واتساع دائرة الفقراء وتراجع الموارد المالية لملايين من البشر ما ينذر بحدوث مجاعة كبيرة بعد أن لا يجد الناس ما يشترون به حاجياتهم الضرورية والأساسية للبقاء على قيد الحياة وهذا نتيجته المباشرة مراجعة جذرية لكل شيء : طريقة الحياة و طريقة العمل والنظرة للإنسان والممارسة السياسية ونمط الحكم وخاصة والأفكار والأيديولوجيات المؤسسة لمختلف المنظومات المجتمعية والآليات المعتمدة للسيطرة والضبط المجتمعي كل هذا ستطالب بتغييره الشعوب واستبداله وستطالب بعد مرور الجائحة بنماذج جديدة للحياة وبطرق مختلفة للحكم قائمة على نوع آخر من السلط وعلى نوع آخر من الثقة وعلى خيارات أخرى للمنظومات القيمية وقد تؤدي كل هذه المطالب التي سوف ترافق مرحلة ما بعد الجائحة إلى انهيار منظومة الحكم القائمة على حماية الحقوق الفردية ومع هذا الانهيار المرتقب يحصل انهيار آخر لآليتين رئيسيتين تقوم عليهما أنظمة الحكم المعاصرة وهما آلية اقتصاد السوق و نظرية الرأسمالية المحررة من كل القيود وآلية الديمقراطية التمثيلية القائمة على الأحزاب السياسية والتمثيلية البرلمانية وهي الآليات التي اختارها العقل الأوروبي ورشحها كأفضل ما تم التوصل إليه لإدارة عملية التشارك واقتسام الموارد النادرة في إطار إحترام حقوق الأفراد . ما ينتظر العالم بعد الجائحة هو ظهور أنظمة حكم رقابية استبدادية تعتمد بدرجة كبيرة على آخر ما توصل إليه العقل البشري في تقنيات الذكاء الاصطناعي وأنظمة سلطة تقلل من حريات الأفراد وتمنع عنهم النشاط بكل حرية وأنظمة حكم استبدادية على نحو لا يجعل الناس أحرارا في حياتهم و تنقلاتهم وترتيب نظام عيشهم بعد أن يفرض عليهم طريقة محددة للحركة والنشاط والاستفادة واقتناء عدد قليل من الحاجيات لا غير كما حصل في " مانهاتن " المدينة الأكثر تحررا في العالم حيث فرض على سكانها عدم اقتناء أكثر من كيسي أرز. ما أرجحه أن يحصل للمجتمعات الغربية بعد نهاية الجائحة هو محاولة كل أنظمة الحكم أن تتماسك بعد ما حصل لها من ضعف وفقدان الثقة فيها ومحاولة التحايل على الشعوب بتوظيف نظرية "التنفيس الجبان " من خلال التخلي عن الكثير من الضبط الأمني والتحكم والسيطرة بغاية امتصاص الغضب وربح الوقت لتفادي عواقب مخلفات الجائحة والمرور إلى مرحلة النسيان التي تنسى فيها الشعوب ما حصل لها وبعدها سيشهد العالم ولادة سلطة جديدة لن تكون بالضرورة سلطة الإيمان ولا سلطة القوة ولا سلطة العقل ولا سلطة المال باعتبار أن المال هو أحد مظاهر القوة وتجسيدا نهائيا لسلطة العقل وإنما سلطة سياسية تنتمي إلى ما طالبت به الشعوب خلال انتشار الوباء ومنظومة حكم تقوم على ما أظهرته الشعوب من تعاطف مع الآخرين وسوف نرى صعودا للقطاعات الاقتصادية التي أظهرت أكثر من غيرها تعاطفا مع الناس كقطاعات الصحة والدواء والمستشفيات والتغذية والتعليم والبيئة وهي قطاعات تعتمد على كبرى شبكات صناعة وإنتاج الطاقة والمعلومات اللازمة في كل الاحوال. سوف يظهر توجه جديد نحو التوقف عن شراء ما هو غير ضروري للحياة وتغيير النظرة للاستهلاك بالتخلي عن سلوك النهم والاستهلاك المحموم لكل شيء ولكل جديد . سوف تعود البشرية إلى أساسيات حياتها وهي الاستفادة من مرورنا على هذا الكوكب بأقصى حد ممكن فما تعلمناه من هذه الجائحة أن الحياة نادرة وثمينة لذلك فهي تستحق أن نعيشها كاملة و أن نجياها بطريقة جيدة وأن دورنا كبشر أن نجعل الانتقال في هذه الحياة سلسا قدر الامكان من دون أن نحول كوكبنا إلى حقل من الخرائب. إن الدرس الكبير الذي على الانسانية إدراكه هو أنه إذا أردنا المحافظة على الحياة وهي ثمينة وإذا أردنا للإنسان عيشا أفضل وبطريقة أفضل فإنه علينا أن نسرع في التفكير من الآن في حياتنا المقبلة والتفكير في كل الذي يحتاج إلى تغيير وتبديل حتى نتجنب الكوارث وما يتبعها من أزمات اقتصادية مؤثرة على حياة الإنسان وبقائه فوق هذا الكوكب.