في خطاب الصراحة والمكاشفة في مواجهة ما حل بفرنسا من جائحة صحية كبرى نتيجة انتشار فيروس كورونا الذي حصد الآلاف من الأرواح في العديد من الدول في العالم كان نصيب فرنسا قرابة 674 حالة وفاة من جملة 15821 إصابة بالوباء الأمر الذي اضطر الحكومة الفرنسية أن تعجل بإعلان منع التجول بداية من منتصف النهار من كل يوم ودخول البلاد في حالة من الحجر الصحي الشامل ، قال " إمانويل ماكرون " نحن في حالة حرب ضد عدو خفي لا يري لذلك فإني أدعو الأمة الفرنسية بكل أبنائها للتآزر والوحدة و أن نوكل الأمر للعلماء لإيجاد مخرج لهذه الأزمة الصحية التي تكاد تعصف بكل العالم .. لقد اتخذنا إجراءات في نطاق الاتحاد الأوروبي لغلق الحدود ومنع تنقل المواطنين وإنني أطلب منكم المزيد من التضحية خاصة وأن هذا الوباء سوف تكون له تداعياته العميقة على اقتصادنا واقتصاديات العالم وعلى وضع الصناعات والتجارة المحلية والعالمية وتداعيات أخرى على الصحة البشرية وحياة الإنسان .. إن فرنسا تعيش أزمة كبيرة وتعرف أياما صعبة نحتاج فيها إلى عقول أبنائها وعلمائها ومن المؤكد أن فرنسا والعالم لن يكونا حالهما كما كان قبل هذه الجائحة ومن المؤكد كذلك أن الكثير من الأشياء والأمور سوف تكون محل تساؤل بعد أن أجبر هذا الوباء كوكب الأرض أن يضع على وجهه كمامة.. " وفي الكلمة التي توجه بها رئيس الوزراء الإيطالي " جوزيب كونتي " إلى الشعب الايطالي بعد أن صنفت منظمة الصحة العالمية إيطاليا بلدا موبوءا ببلوغ حالات الإصابة بفيروس كورونا فيه حدود 59136 إصابة وتوفى منهم قرابة 5476 شخص ، قال : " إننا اليوم نفتقد السيطرة الكلية على احتواء فيروس كوفيد 19 لذلك فقد قررنا توسيع إجراءات العزل الصحي والوقاية من انتشار هذا الوباء ومنع كل الأنشطة الرياضية والثقافية و كل التنقلات خارج المنازل كما اتخذنا اجراءات أخرى بوضع حوالي 60 ألف مواطن تحت الحجر الصحي الشامل .. إني أعلن اليوم أن ايطاليا بأكملها قد أصبحت منطقة محمية .. لقد فقدنا السيطرة بالكلية على احتواء فيروس كوفيد 19 .. لقد انتهت حلول الأرض والأمر متروك الآن إلى السماء .. " في إشارة إلى حالة العجز والضعف التي يشعر بهما إزاء فيروس قاتل عجز الإنسان عن هزمه وأمام وباء وصفه العلماء بأنه أذكى من الإنسان وقد تحدى العقل البشري في أوج تفوقه وفي تلميح إلى حالة الحيرة من إنسداد الأفق وغياب الحلول البشرية لفك شفرة هذا الوباء والتوصل إلى اكتشاف دواء ولقاح لإنقاذ البشرية من هلاكها المحقق لذلك فهو يلجأ إلى الغيب وإلى السماء يطلب منهما النجدة وأن يتدخل الله لإنقاذ بلاده من فناء يترصد بها . قال الرئيس الفرنسي إن العالم لن يعود كما كان قبل اجتياح فيروس كرونا وقال رئيس الوزراء الإيطالي لقد انتهت حلول الأرض والآن الامر متروك إلى السماء فهذان القولان يعبران أدق تعبير عن الأزمة الفكرية والعلمية التي يتخبط فيها الانسان في هذه المرحلة من تاريخه لفهم وتفسير ماذا حصل للبشرية ؟ وكيف و لماذا تغير حال كوكب الأرض بقدوم هذا الفيروس القاتل الذي تحدى العلماء وتخطى العقل البشري ولسان حاله يقول إيتوني بلقاح يهزمني إن كنتم قادرين ؟ في هذا المقال لا نخاطب العقل الملحد الذي أنهى معركته مع الغيب بإنكاره وإخراجه من دائرة اهتمامه و قناعته كما لا نتوجه إلى العقل الغربي الذي أعلن منذ عقود موت الاله وحكم على الله بالغياب وفي أقصى الحالات سمح له بالتواجد بين جدران كنيسة لا يرتادها إلا عدد قليل من المؤمنين بالمسيحية من بقايا السيد المسيح ولجأ إلى تحكيم العقل في كل شيء وغيب وألغى من حياته النظرة الغيبية والتفسير الديني في فهم الأشياء وإنما نخاطب كل مؤمن وكل إنسان يعتقد بأن لهذا الكون خالقا قد أوجده وبأن لهذا الوجود صانعا قد صنعه ووضع له سننا وقوانين يسير عليها وأن هذا العالم الذي نحن فيه يحكمه ميزان ومعادلة وبوصلة وكلما اختل هذا الميزان وكلما تضررت المعادلة وكلما ضاع الاتجاه في البوصلة حينها يحتاج الوجود الى تدخل الحق والخالق ومن بيده الأمر ليعيد التوازن لهذا النظام الكوني وهذا لا يعني أننا نلغي الاتخاذ بالأسباب والاعتماد على العلل و العقل لفهم ما يحصل قال تعالى مخاطبا ذو القرنين " إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا فأتبع سببا " الكهف / 89 وإنما الذي نقصده أن لفهم ما حل بالبشرية وبالعالم نحتاج التفسير الإيماني الى جانب التفسير العقلي حتى نستوعب الدرس ونفهم لماذا كان فيروس كورنا . تعددت التفسيرات والتحاليل لفهم الأزمة التي تمر بها الإنسانية وتنوعت التفاسير للتعرف على حقيقة هذه الجائحة الصحية التي أحرجت العالم وأدخلت كل دوله في حالة من الوهن والعجز والتكبيل فهناك من جلب نظرية المؤامرة واعتبر أن الأمر ليس عفويا وإنما هو أمر مدبر وراءه لوبيات مهيمنة ومسيطرة على صناعة الدواء وإنتاجه وترويجه و تتحكم في أسواقه واليوم تراجعت عائدات هذه الشركات الكبرى وهي تعمل من وراء هذه الجائحة إلى كسب الثروة من وراء خلق وباء يحتاج إلى دواء يصنع في مخابرها وهناك من يذهب إلى أن الأمر لا يعدو أن يكون حرب اقتصادية بين القوى العظمى في العالم للانفراد بالزعامة والسيطرة على التجارة والمال فيتم افتعال مثل هذه الازمات لإضعاف الخصوم واليوم دولة الصين مرشحة لقيادة العالم فيتم اضعافها بهذا الوباء الذي خططت له بعض القوى التي تزاحمها على ريادة العالم سياسيا واقتصاديا و اليوم وهناك تفسيرات أخرى وكلها تصب في الفهم المباشر والظاهري أما الأسباب العميقة فلا نجدها إلا في الفهم الديني و الغيبي. قال تعالى " وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " النحل / 112. وقال " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا " الاسراء / 16. من خلال التدبر والتمعن في هاتين الآيتين وغيرهما كثير في القرآن نصل إلى أن الله لا يحل عقابه بالبشر ولا يسلط عذابه على الأمم إلا حينما يعجز البشر عن حل مشاكلهم بمفردهم وحينما يصعب عن البعض كبح جماح طغيان البقية وحينما يختل توازن العدل ويختفى الخير على حساب الظلم ويتفشى الفساد المالي والسياسي والأخلاقي وإذا تواصل الإنسان في غيه وغطرسته وتكبره " أمرنا مترفيها " أي طلبنا من الأغنياء مرارا وتكرارا أن ينصاعوا إلى قانون العدل وأن لا يظلموا وأن يحققوا العدالة الاجتماعية وأن لا يكنزوا المال عندهم دون غيرهم ولكن تكبرهم واحتماءهم بظلمهم منعهم من الاستماع إلى هذا النداء فكان أن تدخلت السماء لإرجاع البشرية الى رشدها . فكلما اجتمع الطغيان السياسي مع الاستبداد المالي وكلما وصلت البشرية الى منتهاها باستعمال القوة الظالمة تجاه الأمم الضعيفة والفقيرة وكلما وصلت إلى منتهاها في اكتناز المال والثروة لدى فئة ضعيفة من البشر تتحكم في صرفه وتوزيعه وكلما كانت هاتان القوتان السياسية والمالية لا تريدان أن ترتدعا من تلقاء نفسيهما وتعودا إلى حالة الرشد وتلتزما بقانون العدل والإنصاف مع الطبيعة بعدم اتلافها وإهلاكها وتلويثها ومع الإنسان بعدم ظلمه ومنعه من الاستفادة من خيرات الكون بالعدل والتساوي إلا وتدخلت السماء لكبح هذا التمرد و هذا الجشع المالي والسياسي وإيقاف هذا المد من الطغيان الاقتصادي والمالي الذي اجتاح العالم اليوم . وبالعود إلى تاريخ الإنسان يعلمنا الله في قرآنه أنه كثيرا ما اضطرت العناية البشرية أن تتدخل لتقويم ما يطرأ من خلل واعوجاج في الكون و ما يظهر من ظلم في حياة البشر فكانت القرى والأمم التي توغلت في الفواحش والظلم والفساد كثيرا ما يسلط عليها عقاب الزلازل المدمر والرياح العاتية والحجارة والطوفان والغرق وشتى صور الدمار والخسف والعقاب باجتياح الجراد والضفادع والقمل والأمراض والأوبئة التي أفنت الكثير من الأقوام عبر التاريخ القديم وقد صور لنا القرآن مثالين عن هذه الاخلالات التي تحصل وتتسبب في ضياع التوازن الكوني وحدوث خلل في معادلة الوجود القائمة على عدم الظلم وعدم الفساد والطغيان الذي قد يكون سياسيا أو اقتصاديا أو ماليا أو اخلاقيا أو اجتماعيا الأول صورة الطغيان الفرعوني والثاني صورة الاكتناز القاروني - نسبة إلى قارون - ففرعون طغى وتجبر وقال أنا ربكم الأعلى ولم ينته عن طغيانه بل واصل في ممارسة الاستبداد السياسي وأذاق شعبه الكثير من الألم وقارون كان أحد الأغنياء في زمان النبي موسى أعطاه الله الكثير من المال وتوفرت له الكثير من الثروات حتى يقال أن مفاتيح خزائن امواله يصعب حملها لثقلها وكان وقتها وزيرا عند فرعون مصر فقال له الله لا تنسى الفقراء والضعفاء والمحتاجين ولا تواصل في كنز الأموال والثروات من دون أن تستفيد منها الفئات المحتاجة فما كان من جوابه إلا أن هذا المال هو مالي وأنا صاحبه فكان جواب الله " أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ..." القصص / 78 وخسف به الأرض من دون أن يقدر أحد على منع هذا الخسف الذي يعبر عن عدالة السماء تجاه الطغيان المالي وهذا التمرد على قانون الله في تحقيق العدالة الاجتماعية كلما وصل المتمرد إلى حده " فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين " القصص / 81. ما أردنا قوله في فهم ما يحصل اليوم من جائحة صحية قد تهدد البشرية في بقائها وفي تفسير الأسباب التي كانت وراء ابتلاء البشرية في راهنيتها بوباء قد يكون الأخطر على مر العصور هو أن كل التحاليل التي قدمت لفهم ما حصل هي في نظرنا تحاليل ظاهرية وقفت على الأسباب المباشرة غير أن السبب الحقيقي لما يحصل لنا من انتشار لهذا الوباء الذي وصف بأنه أذكى من العقل البشري يكمن في الغضب الالهي تجاه الظلم الكبير الذي استشرى في العالم والاستبداد السياسي الذي تمارسه الكثير من القوى في العالم والتمرد المالي بالاستحواذ على الثروات من قبل فئة قليلة في العالم بينما بقية البشر تعيش وضعا مزريا ماليا وصحيا واقتصاديا فكلما وصل جشع الانسان إلى أقصاه كان تدخل السماء لتعديل هذا الخلل وعدم التوازن في القوانين الطبيعية والإنسانية وهذا ليس انتقاما من الانسان وإنما هو من أجل إرجاعه الى الجادة والى حقيقته الأولى وهو كونه خليفة الله في الارض وهو مؤتمن عليها وعلى اعمارها بتطبيق العدل والإنصاف والخير .