قضيت كامل يوم 8 مايو، مغتنما الإقامة الجبرية، المفروضة من صاحبة التاج كورونا، وبعضا من اليومين اللذين تلياه، باحثا عن خبر، فلم أعثر عليه. استمعت وشاهدت عدة نشرات أخبار من عديد المرئيات، ثم ركبت حاسوبي وأبحرت فوق أمواج الشبكة العنكبوتية، فانغمست في كل الصحف التي أعرفها وأثق فيها، علّي أحصل على مبتغاي، لكن دون جدوى. زرت، رغم جهلي وبعناء وخشية، عدة مواقع طمعا في بلوغ ما أبتغي، فقوبلت بالصمت، فعدت منهزما مخذولا، متأسفا، محزونا، لأنّ فقدان ما كنت أبحث عنه ما هو إلا دليل على افتحال مرض، ظننت أنه زائل بزوال الظروف والمتسبب أو المتسبّبين، وبالتغيير الذي خِلت أنه آت بالفرج والشفاء من عديد العاهات، لكن خاب ظني وأملي، فلا مبدّل ولا مُغيّر، لأن الدّاء غرس في الأنفس والطباع، غريزة النكران وعدم الاعتراف لمن يعمل وعمل. فالله سبحانه يقول وقوله الحق: " وقل اعملوا، فسيرى الله عملكم ورسولُه والمؤمنون." فنحن، على ما يبدو، لم نر ولم نعترف بما عمل العاملون منّا، فبقينا منكِرين، فزدنا لبنة أخرى لجدار الباطل والتحريف، المحيط بتاريخنا، بالمعاصر منه على الأقل. لست أذكر من الذي قال: " إن تحرير الكلمة والتعبير، هو أيضا تحرير التاريخ من انغلاقه الباتر." فتاريخنا مع الأسف يأتينا مبتورا لأسباب يطول عرضها وشرحها، إذ هي حالة نفسية، تجعل المرء يرى نفسه قطب الدنيا ومحورها، وأنّ ما يراه ويقوله ويفعله هو الحق المبين، لا حق لأحد غيره التحلّي به ولا الانتساب إليه. هذه العلّة أصابت حركتنا الوطنية فجعلتنا، أو جعلت قادتنا، يرون أنها حكرا عليهم، ومن تعاطاها غيرهم بدون مباركتهم، نبذوه وقاوموه ونسبوا إليه ما ليس ينسب ولا هو بحقيقة. هذا التصرّف، هذه الفلسفة، هذه الطريقة في التسيير والمعاملة، وُضِعت تحت ستار الوحدة والتكتل، فآمنا بها واعتنقناها، إلى أن تخطينا سن المراهقة واجتزنا عتبة سن الرشد، فبانت لنا الحقيقة فعصينا، وكنا عُصبة عددنا يتكاثر، فرفضنا، وثرنا، وعصينا، وندّدنا بالضغط والدكتاتورية، لكن، وهذا أغرب الغرائب، لم ننفصل، فبقينا نعمل، لكن في إطار مفاهيمنا. عمّت تلك العلّة أو الطريقة السياسة المتبعة، فشملت من انتسب للتنظيم ومن لم ينتسب، فكانت ضحاياها كثيرة لا تُعد، سأحاول على عجل، وبلا مرجع ولا وثائق، ذكرَ من يحضرني من الرجال، والنساء أيضا، من منهم عمل صالحا وقدّم الكثير، الثمين مردوده ونتائجه، داخل الصفوف وخارجها، فهُمِّشوا أحياء، وظلموا بعد الاستقلال، وفُسِخت صورهم وأسماؤهم، تحت علل واتهامات كاذبة متعدّدة، من قائمة العاملين المخلصين، بينما الحقيقة التي ازدادت مرارة، تُثبت لهم حقّ الصدارة بين العاملين، بما أتوا وصنعوا، فنال الوطن محاسن عملهم ونتائج صنعهم، بفضل تضحياتهم ومجهوداتهم. فأين اليوم مثلا، بشيرة بن مراد، وإبراهيم عبد الله، والمختار بن عطية، وعلي الزليطني، والبحري قيقة وغيرهم كثر. هذا من داخل الصفوف. أما من خارجها فأين محمود الماطري الذي كان أول رئيس حزب الدستور الجديد، أين الطاهر صفر، فيلسوفه، الذي رغم قصر حياته النضالية، إذ اختطفه المنون مبكرا، وأين حافظ إبراهيم، وأين محمد شنيق، والفاضل بن عاشور، والطاهر بن عمار؟ إنّ هذا الأخير هو الذي دفع بي لكتابة هذه الأسطر، ذكّرنيه تاريخ وفاته، يوم الثامن من مايو رحمه الله، عام خمسة وثمانين وتسع مائة وألف، فظننت، ناسيا أو متناسيا سذاجتي، أننا دخلنا حقبة جديدة، أتت على الأغراض المّشينة، وسيُنصَف التاريخ وصانعوه في عهدنا الجديد. لذا بحثت عن كلمة، ولو قصيرة، تفيد الأجيال الشابة والناشئة، بحقيقة تاريخ بلادها، عن طريق وبأسماء الذين عملوا بجد وإخلاص كي تتمتع بما هي اليوم فيه وبه متمتعة، وما المرحوم الطاهر بن عمّار إلا أحدهم وليس من الدون. لست من الذين يستطيعون أو يدعون الكتابة عن هذا المواطن المثالي، الذي قدّم خدمات جليلة لبلده وشعبه، بوطنية صادقة، واستقلالية متحرّرة من كلّ انتماء أو تبعية، وواقعية فقدها الكثيرون منا، فتُرجمت بأخطاء وأغراض، وقابلها بصبر مثالي، دون نسيانه مدّ الأيدي وتشابكها، لوحدة الصف والكلمة، إذ الغاية واحدة والهدف كذلك. أتجرّأ الآن فأكتب ما أمكن عنه، كي أذكر الناسين والمتناسين، أن تونس لم تبلغ ما بلغته، بعصى سحرية أو يد واحدة، بل كان لها من أبنائها نجباء كثيرون، يتحتم، ويفرض التاريخ والحق، ذكرهم وتخليد أعمالهم، بما فيها من إيجابيات وسلبيات. إن معظم ما عرفتُه عن السيد الطاهر بن عمار، بعضه قرأته وسمعته، وأكثره عايشته، وما اعتمادي إلا على الله والذاكرة، فأي خطئ أو نسيان أرجو عنه المعذرة من الآن. هو قبل كل شيء ابن الأرض، مزارع فلاح، ترأس الغرفة الزراعية فندّد وقاوم عدم المساواة، وأفشل مناورات المعمرين الفرنسيين، كما وقف بتصميم ضدّ اغتصاب الأراضي، وأدخل تطورا وتقنيات على العمل والإنتاج الزراعي الذي هو، ليتذكر الناسئون، عماد الاقتصاد التونسي، في ذلك العهد على الأقل. أما في مجال النشاط أو النضال الوطني، فقد بدأه مبكرا في فلك الحزب الحر الدستوري – القديم – حتى أنه قاد وفده الثاني إلى باريس (في مستهل العشرينات من القرن الماضي) لإشعار فرنسا، حكومة وشعبا، بما تريده تونس. تعاون مع الحزب الإصلاحي، ونشط كثيرا فيما بين الحربين، فدخل المعمعة فعليا وشعبيا، متحملا عديد المسؤوليات النضالية والرسمية، منها عضوية المجلس الكبير، حيث عُرف عنه عدم الاستسلام أو التنازل عن أي مشروع أو مطلب هو حق من حقوق التونسيين. كان، رحمه الله، حسب ما عُرف عنه، يؤمن بالمقاومة من الداخل، فكأنه – هذا رأيي الخاص – يريد أن يضع المستعمر أمام خيارين: " كول والا يجيك الغول " أي اقبل ما أطلبه أو أقترحه بالحوار وبالتي هي أحسن، أو ستفتكه منك الحركة الوطنية بأحزابها ومنظماتها " بالقوة إن لزم الأمر"، بما يكلف ذلك من أتعاب وضحايا. عُرف عنه أيضا مشجعا مساندا للصحافة والجرائد التونسية في الأوساط اليهودية والفرنسية، يرمي بذلك ولا شك إطلاع المواطنين اليهود والفرنسيين على حقائق الأمور في نظر التونسيين ومواقفهم من ذلك. كانت له صداقات وثيقة مع كبار شخصيات فرنسية في باريس، فاستغلها عديد المرات لفائدة بعض المواطنين المتعرّضين لاعتداءات ظالمة، خاصة بعد انسحاب قوات المحور من تونس، وعودة العنجهية الفرنسية وأساليب انتقامها، فاتُّهم الكثيرون الكثيرون بتعاونهم مع النازيين، أشهرهم المرحوم سيدي المنصف باي، الذي نفي في لغواط بالجزائر، وحسب ما أشيع في حينه، استطاع السيد بن عمار أن يحصل لا على سراحه، بل على نقله إلى مكان أنسب لا أذكر اسمه الآن، قبل أن ينقل نهائيا إلى مدينة "بو" بفرنسا حيث وافاه الأجل. توسط كذلك لفائدة المناضل البشير المهذبي، وإن لم تخني الذاكرة، لفائدة نظيره السيد محمد شنيق، الذي ترأس، في عهد المنصف باي، أول حكومة لا يمر تعيينها ولا تعيين أعضائها على موافقة المقيم العام. مما لا أزال أذكر من منجزات السيد الطاهر بن عمار، هو تأسيسه " الجبهة الوطنية" للحوار والمعارضة، ضمت أحزابا ومنظمات وكل المؤسسات الوطنية تقريبا، كل هذا بغية الوصول إلى توحيد الكلمة والمطلب. أذكر كذلك، بلا جزئيات أو دقة بيانات، أنه ترأس المجموعة التونسية بالمجلس الكبير سنة خمسين أو واحد وخمسين، فوجه رسالة أو هي اثنتين، إلى المقيم العام يومئذ – ضاع عني اسمه مثل كثير الأسماء – يؤيد المذكرة التي تقدم بها السيد شنيق رئيس الحكومة الوطنية، يطالب فيها بإجراء الحوار والتفاوض بين تونسوفرنسا، والغاية لا تخفى عن أحد أي الاستقلال الداخلي في تلك الفترة. لكن أهم وأثقل المسؤوليات التي تحمّلها وانتهت بالتوفيق ورضاء الجميع، هي ترأس الحكومة التونسية التي أجرت مفاوضات انتهت بإبرام اتفاقيات استقلال داخلي. لكن تعقدت الأمور داخليا، ودخلت البلاد في دوامة كفاح ومطالبات وتأزم، فجددت الثقة في السيد الطاهر بن عمار ورئاسته الحكومة التي ستجري مفاوضات جديدة، على أسس جديدة، ونهاية مُسرّة، وهي الاعتراف باستقلال تونس الذي أبرم بين فرنساوتونس، ووقّع بروتوكول الاستقلال السيد الطاهر بن عمّار. نشط وأخلص وعمل وأفاد فهل يعز علينا الاعتراف له بذلك، علما بأن الاعتراف بالفضل فضيلة، وصدق الشاعر إذ قال: فكن شاكرا للمنعمين لفضلهم ** وأفْضِل عليهم إن قدرت وأنعمِ إن أكبر ما يُستغرب فينا وفي تصرّفاتنا، مبالغتنا في تقليد ومحاكاة ما يأتيه الغرب، مكثرين مما يعيبنا ويفسدنا، ولا نحاكيه فيما يناسبنا من سننه وعاداته الرفيعة المعنى والأخلاق، مثل عدم نسيان نسائه ورجاله الذين عملوا وقدّموا وأفادوا، وذكرهم في كلّ مناسبة وآن. لقد حان الأوان أن نستقيم، لأن الاستقامة مركبة النجاح. مدريد في 12-5-2020.