خطاب سياسي لأعلى هرم السلطة مشبع بألفاظ تم جلبها من معجم الحرب والقتال يوحي للسامع بأننا في مواجهة مع عدو متربص بنا في دلالة على وجود خلل في الخطاب السياسي الذي أصبح يعتمد على فكرة المؤامرة والتشكيك والتخويف والاتهامات ..يقابله مشهد سياسي انخرط فيه جل الفاعلين السياسيين من منتمين لأحزاب المعارضة وأحزاب الحكم كان مسرحه مجلس نواب الشعب وبعض المنابر الإعلامية المختلفة سمته الرداءة والابتذال والتدني بعد أن نزلت لغة الخطاب بين مختلف الفرقاء السياسيين إلى ما يقوله رجل الشارع وما نسمعه في الأوساط الشعبية استعمل فيه العنف اللفظي والتراشق بالاتهامات والممارسات المتردية والصادمة وصل فيه الأمر إلى حد إستعمال الكلام البذيء الصادم الذي لا يقبل بتاتا من رجل السياسة ومن ممثل الشعب في البرلمان .. وفي الضفة الأخرى نجد مشهدا إعلاميا أسس على ما يعرف اليوم ببرامج الإثارة و إعلام الواقع رافقه مشهد تلفزيوني يقدم برامج ومحتوى فني وإبداعي فيه الكثير من الابتذال في مستوى الحوار والمضمون يعمل على خلق واقع اجتماعي يتم فرضه يقوم على تعميم الحالة الخارجة على النظام العام وتكريس الحالة اللامعيارية وجعلها هي الحالة الحقيقية واعتبار الحالات الاجتماعية الاستثنائية هي واقع المجتمع التونسي وحقيقته مما جعل من الخلل الاجتماعي الموجود هو الحالة السائدة فيه ويعتبر أن الظواهر السلبية المتعبة للأفراد هي طبيعة الشعب وميزاته .. وفي مستوى آخر لدينا خطاب مسرحي وسينمائي يعاب عليه تعديه على الثوابت المجتمعية والدينية و على ما هو مشترك بين الجميع وما يمثل وحدة الشعب فضلا إلى الإساءة إلى ما يمثل توازنه ووحدته مع صورة فنية فيها الكثير من الجرأة والمشاهد المفتعلة ما يطرح سؤال الأخلاق والذوق والمقدس في هذه الأعمال التي يقال عنها فنية و ابداعية والتي تخصص لها الدولة والقنوات الخاصة أموالا طائلة سواء كانت دراما تلفزية أو سينمائية أو عملا مسرحيا يهدف إلى السخرية من الرموز السياسية أو الدينية . هذا هو حالنا اليوم وهذا هو واقعنا في زمن الحرية بعد أن تنفس الشعب روائح الحرية وانظم إلى نادي الدول الديمقراطية وانخرط في مسار المجتمعات الحية التي تتوق إلى حياة أفضل والسؤال الذي يفرضه هذا الواقع الذي يوصف بالرديء والمتخلف والمتسم بالإفراط في الفوضى الفكرية والانفلات الفني والتحلل الثقافي والإبداعي هو كيف ولماذا وصلنا إلى هذه الحالة من التسيب في كل شيء ؟ وبماذا نفسر تدني لغة الخطاب السياسي والإعلامي والفني والفكري ؟ فهل يعود ذلك إلى طبيعة الشخصية التونسية التي هي بطبعها كما يقول كل من اشتغل على الشخصية التونسية تميل إلى استعمال البذاءة في الكلام ؟ أم يعود خطاب الابتذال والانحطاط الأخلاقي إلى طبيعة تكوين الفرد التونسي وتربيته وثقافته الذي صنعت له ذائقة متعايشة مع الانحطاط ومتساهلة من لغة الخطاب البذيء ؟ أم أن وراء هذا المشهد الخرب تفسير آخر وتشخيص مختلف ؟ في فهمه لهذه الظاهرة التي تحولت اليوم إلى نقاش واسع في الفضاء العام ذهب الدكتور منصف وناس المختص في علم الاجتماع السياسي إلى أن ظاهرة الكلام الفاحش في الخطاب السياسي والإعلامي والفني لا تعدو أن تكون سوى تجسيم لصعوبة تعلم الديمقراطية نتيجة عدم تحولها إلى قناعة جماعية وإلى معيش يومي وثقافة سائدة ذلك أن الديمقراطية بما هي مضمون ثقافي تحتاج إلى وقت طويل كي يتم تعلمها من قبل كل الفاعلين في المشهد السياسي والفني والفكري. فالزمن الذي قطعته البلاد لإرساء حياة ديمقراطية تعددية متزنة هو زمن قياسا مع تبلدان أخرى مرت بتجارب انتقال ديمقراطي ومراحل ما بعد الاستبداد هو قصير جدا فنحن اليوم في السنة التاسعة من تعلم الديمقراطية وهي فترة ليست كافية حتى يزيل المجتمع إرثه القديم المكبل والمعطل لإرساء حياة ديمقراطية حقيقية. فما يقلق اليوم الناس من ابتذال في لغة خطاب الجميع هو طبيعي ويمكن تفهمه وهنا علينا أن نتذكر التجربة الفرنسية التي تطلبت حيزا زمنيا طويلا قارب القرن من الزمن حتى تعلم الشعب الفرنسي الديمقراطية بعد أن دفع كلفة باهظة من العنف بجميع أنواعه ومن أعمال الارهاب والترهيب بإسم عناوين مختلفة لكل ذلك فإن الدكتور وناس يرفض استعمال مفردتي " الترذيل والابتذال " في وصف ما يعشه المجتمع من انفلات وتدني في مستوى لغة الخطاب المستعملة في المجال السياسي والفكري والفني الابداعي ويعتبر أن وراء هذا الواقع الذي يصفه البعض بالعفن حالة الصعوبة التي يجدها المجتمع بنخبه المختلفة في فهم الدرس الديمقراطي والصعوبة في استيعاب الحياة الديمقراطية إذ أنه ليس من اليسير حسب رأيه على مجتمع خرج لتوه من الانغلاق والمنع والحصار الفكري والسياسي والفني الذائقي أن يتعلم الحياة الديمقراطية بمنتهى السهولة واليسر من دون الوقوع في المنزلقات والأخطاء من أجل ذلك فإن سلوك الصدام والتوتر وأسلوب الاقصاء المتبادل واستعمال كل الوسائل لترذيل الخصم وتشويهه والسخرية منه هي مسألة في نظره لازمة ومن كلفة المرحلة وهي كلفة نفسية وعلائقية صعبة أظهرت ما نحن عليه من أحقاد ومن عمق الخلافات التي نحن عليها تتجسم في خطاب يومي مبني على التوتر وثقافة انعدام الحوار وعدم احترام الآخر أفرزت شخصية متناقصة غير منسجمة مع فكرها وقناعتها ومتحولة باستمرار وغير مبدئية في مواقفها يحكمها الولاء للشخص أكثر من الولاء للفكرة والمبدأ. و عن الحلول للخروج من هذا الواقع المتردي وفي عملية لاستشراف المستقبل يرى الدكتور منصف وناس أن الظاهرة سوف تتواصل لسنوات أخرى وأن الخطاب العنيف وكذلك الانفلات القيمي والأخلاقي والذائقي وسلوك التحرر من كل القيود في شتى العلاقات سيرافقنا لفترة أخرى إلى حين بلوغ مرحلة التوافق والاقتناع واستيعاب التجربة الديمقراطية مع ظهور جيل جديد من السياسيين والفنانين والمثقفين نشؤوا في مناخ ديمقراطي ووسط فكري يقبل بالتعايش والاختلاف بعد أن تتحول إلى ثقافة يومية وهذا يعني ان ما نشاهده اليوم من مظاهر الانفلات اللفظي والسلوكي ومن تنامي لظاهرة العنف السياسي والتوتر الفكري والقلق الفني هو كله نتاج المرحلة التي نحياها.