مرّت، منذ يومين، مائة وثلاثون سنة على انتصاب الحماية الفرنسية في تونس، ففي الثاني عشر من شهر ماي 1881 حطت جحافل الاستعمار بربوعنا ليمتد بقاؤها طيلة ثلاثة أرباع القرن، كانت مشحونة بالظلم والعسف والاستغلال من جهة والصمود والثبات والكفاح من جهة أخرى. والآن وبلادنا تعيش مرحلة انعتاق وتحرّر جديدين، فإن موقفنا من فرنسا، المستعمر القديم والصديق الحالي، يصبح مشدودا الى مرجعيتين متناقضتين، جملة وتفصيلا، الأولى ناصعة ، مبهرة، وتتمثل في منظومة القيم والمبادئ الإنسانية التي بشرت بها الثورة الفرنسية وتبنتها الثورة التونسية،و الإضافات المتنوعة التي جاد بها مبدعو تلك البقاع على مرّ العصور، والحس الفني المرهف الذي أشاعه الفنانون الفرنسيون، والأفكار التنويرية والتحديثية التي بثت وعيا انسانيا شاملا، اما المرجعية الثانية فهي قاتمة، مرعبة، وتجسمّها تلك المرحلة الطويلة من الاستعمار الغاشم، وماساد خلالها من عسف وظلم واستغلال وجرائم بشعة ومحاولات دنيئة لتجريد شعب بأكمله من هويته وتدمير عناصر شخصيته. وان كانت المرجعية الأولى ارثا انسانيا ثابتا لايمكن ان يخضع التعامل معه للتفاعلات الذاتية أوطوارئ الزمن، فإن الثانية هي جزء من ذاكرتنا الوطنية، نحاول دوما، تطويقه بما في ذواتنا من تسامح وغفران، وقدرة على التجاوز، لكننا لايمكن اخلاقيا على الأقل، ان نسقطه، تماما، ونسحبه من تاريخنا، لأن النسيان يدمر الحقيقة ويمهد لإعادة ارتكاب الجريمة، لذلك تصرّ الشعوب على إقامة النصب التذكارية لمقاومة النسيان، ويحرص المبدعون الملتزمون على تخليد الجرائم للتنبيه الى خطورتها وضرورة منع تكرارها. وهنا تلقى المسؤولية بالكامل على فرنسا، المستعمرالقديم، التي من واجبها الأخلاقي الاعتراف بجرائمها الاستعمارية والاعتذار للشعوب التي اضطهدتها، حتى يندمل الجرح ويصبح التعامل معها نقيا ومتكافئا، وخاليا من رواسب الماضي المظلم وأدران ارث العار. ولكن في الوقت الذي كنا ننتظر ان تتخذ فرنسا خطوة جريئة في هذا الإتجاه التصحيحي، تتعالى أصوات عديدة في الأوساط السياسية والفكرية والإعلامية لتمجيد الإستعمار الفرنسي، وتعداد «فضائله» باعتباره «فتحا حضاريا ساهم في نهضة الشعوب المستعمرة»!! انه سعي متجدد لإثارة الأحقاد النائمة، والإيغال المتعمد في ممارسة السادية العنصرية المقرفة، دون أن تجد من يتصدى لهذا المدّالخطير، باستثناء النفر القليل من المستنيرين. وهاهي الفرصة سانحة، اكثر من أي وقت مضى، لتكفر فرنسا عن ذنوبها، وتعتذر للشعب التونسي فتضع بذلك حدا لنزيف الأحقاد، وتمسح اثار العار العالق بها، وتبدأ صفحة جديدة تكون خالية، تماما، من عقد الماضي اللعيّن. على فرنسا أن تمد يدا نقية للثورة التونسية، المحمّلة بالمبادئ التي بشرت بها الثورة الفرنسية، وتساهم من موقعها كشريك اقتصادي وثقافي وجار متوسطي في دعم المنحى التحرري والديمقراطي في ربوعنا، كما فعلت سابقا بمعية بلدان أوروبية اخرى، مع اسبانيا والبرتغال ودول أوروبا الشرقية المتحررة من عسف الديكتاتوريات. وقتها فقط تشع صورة فرنسا التنوير والقيم الإنسانية الخالدة، وتختفي من الذاكرة الجماعية صورة فرنسا الاستعمار والظلم والاستغلال.