كانوا ثلاثة ارتحل منهم اثنان وبقي واحد، والبقاء لله الواحد الصّمد. وليس هناك إنسان لا تخامر فكره مشكلة الزمان، « فالإنسان يشعر في كلّ لحظة أنّه مقبل على الفناء وليس له من ثأر إزاء ذلك إلاّ البقاء... البقاء لله» محمود المسعدي. الأوّل هو صالح جغام الذي ظلّ طوال حياته يمثّل المسافر زاده فكر وفنّ جميل يحمل حقيبة مليئة بالمفاجآت. كان صوته عبر الأثير لا ينفذ إلى الآذان بقدر ما كان يلج إلى القلوب التي كان ينعشها بانتقاءاته الموسيقية وېقراءاته المختارة ولقاءاته مع أساطين الطرب والبيان في العالم العربي. كان يخاطب العقول بدل الخصور. كان شديدا مع نفسه قبل الآخرين ومن الشدّة ما قتل. زارني يوما في بيتي وزرته مرّة في الأستديو واستضافني مرّات عن بُعد وكانت المرّة الأخيرة عند إفطار يوم من أيّام رمضان وانقطع الاتصال فثار وزمجر ولكن المقصود حصل والتحيّة وصلت عند الغروب ورنين صوت الكروان الصالح باق ما بقيت. كما هو باق في ذاكرتنا الجماعية ذلك البرنامج المسائي الذي كان يعدّه الصديق محمّد مصمولى ويقدّمه صالح تحت عنوان يحاول البعض عبثا محاكاته «ما تسمعه اليوم تقرؤه غدا». فاستيقظ هانئا يا صالح في رحمة الله وغفرانه. «الناس نيام فإذا ماتوا استيقظوا» حديث. أمّا الثاني فهو نجيب الخطاب هذا الذي شغل الناس في حياته القصيرة وبعد مماته حيث تتابعت الملاحق الخاصّة به في كلّ الجرائد السيّارة لمدّة طويلة… لم يكن منشّطا بالمعني المتداول الآن بل كان فنّانا مبدعا. كان كما يحلو للبعض نعت من يتفوّق في فنّه سلطانا في آدائه في فضاء الإذاعة والتلفزة بعد أن جلبته أضواؤها وأبعدته عن صاحبة الجلالة فأعطاها من عصارة أفكاره ومنتهي جهده إلى أن لفظ أنفاسه في محيطها الذي ضاق به. كان كمثل الرّجل الذي يسبق ظلّه. كان في سباق مستمرّ ضدّ الساعة. هو رجل مرّ کالشّهاب في سماء هذا البلد. رحل في أوج عطاء تماما مثل أبي القاسم الشابي وعلي الدوعاجي وعلي بن عيّاد. لقد أفنى عمره في إسعاد الآخرين والأوفياء منهم مساء كلّ أحد. وكان يستأذن دائما من مشاهديه ومن مستمعيه « لو سمحتم». شيمته الوفاء لكلّ من قدم إلى هذا الوطن. ولقد بادر ذات مساء بإنجاز سهرة تكريما للفنّان رضا القلعي في نطاق إحدى دورات مهرجان سهرات أريانة التي انطلقت سنة 1981. و كانت تربطه بمدينتي وشائج لم تنقطع حتى الرّمق الأخير من عمره. فلقد هاتفني ليلة وفاته عشيّة الدورة الجديدة لعيد الورد وطلب منّي إحضار کميّات هائلة من الزهور لإعداد فقرة خاصّة بالعيد. فكانت الورود في الموعد... إذ أنها صاحبته إلى مثواه الأخير. فلتهنأ يا نجيب راضيا مرضيّا في رعاية الرحمان ورضوانه، يا من کنت تردّد عند كل إطلالة «ما رضاء الله إلاّ برضاء الوالدين». ثالث الفرسان هو الصديق البشير رجب صاحب القامة العالية في المجال السمعي إذ لا يطوله أحد ممّن يجلسون أو حتى يقفون أمام المصدح. إنّي عندما أشاهده وهو في أستديو 2 -ولقد تعدّدت المرّات التي التقينا فيها- أخال كأنّ المصدح ينحني أمام حِرفيّة الرجل الذي يطوّعه كيفما يشاء وهو المتقن والبارع والعرّيف بفنّ الإلقاء. له قدرة في التبليغ وفي النفاذ إلى الأسماع بتؤدة ولين. ولربّما هذا هو الذي دفعه في مشواره الحالي إلى انجاز ما لم يُقدم عليه أحد من قبله وهو التحاور مع أبائنا المسنّين في مساحة اختار لها من الأسماء أحلاها: «نبض الزمان وإيقاع العصر»۔ قدّم البشير خلال فترة من الزمن لمدينتي أجلّ الخدمات في مختلف المحطّات الثقافية والاحتفالية: الدورة الأولى لمهرجان سيدي عمّار سنة 1981، ثمّ الدورة الأولى لعيد الورد سنة 1982، ثمّ المعرض الاقتصادي الأوّل سنة 1986. لقد رافقني إلى سلا بمناسبة إجراء مراسم التوأمة مع أريانة في شهر ديسمبر 1982 وأبهر الحضور برشاقة تقديمه للحدث أمام وزيرين أوّلين في المغرب الشقيق المغفور لهما عبد الرحيم بوعبيد المتقاعد آنذاك والمعطي بوعبيد المباشر وقتئذ. وعند عودتنا إلى تونس توجّه البشير رأسا إلى الأستديو في الإذاعة وأمّن ربطا مباشرا مع إذاعة الرباط مستعرضا الحدث من جديد من موقع آخر هو في حقيقة الأمر ما ينعت بعقر الدّار. فالإذاعة سكنته بقدر ما سكنها وحتّي وإن غادرها فهو... إذاعة مجتمعة في إنسان. لقد أسّس خلال المناسبات التي استعرضتها منذ حين إذاعة محلية نشطت على نفس منوال الإذاعة الرسمية حتى أنّه يمكن اعتباره رائدا في هذا المجال أيضا. ولقد فكّرنا سويّا في إعداد العدّة لإنشاء إذاعة للورد. ولكن ما كلّ ما يتمنّاه المرء يدركه.