إن بلادنا أحرزت على نوبل للسلام، في غفلة غافل، ولا يعرف مصير الأموال التي رُصدت للجائزة، ومن استحوذ على التصرف فيها، وإن توزعت كيف كان توزيعها، ولو رجعنا الى البداية ان جائزة نوبل للسلام لسنة 2015 تنافس عليها 273 مرشحا، فازت بها المنظمات الراعية للحوار الوطني، وفي الحقيقة هي تكريم للشعب التونسي بأكمله، وبجميع اطيافه، لثورته السلمية الهادئة، لأنه برهن على قدرته في تجاوز الصعاب، وعلى الخروج من الأزمات الظرفية، بفضل الحوار الصريح، وروح التوافق، في فترة انتقالية لم يعرف التاريخ خلفياتها بعد، ولا الذين دعموها تحت غطاء بناء مسار ديمقراطي متميزا، يساهم في بعثه مختلف القوى الوطنية، من أحزاب ومنظمات وهيئات المجتمع المدني ورجال الفكر والقلم… ودارت الايام، وتوالت الحكومات بالمئات، تسع حكومات منذ الثورة، تألفت من أربع مائة وخمس وثلاثون وزراء وكتاب دولة، منهم الاحد عشر وزيرا، الذين هم بصدد الانتظار، وغابت النخبة، وجلست على الربوة، تنظر بحزن الى ما اصاب البلاد من تضخم الانا، وازدواج اللغة، وفقدان الاخلاق السياسية، وتدرك ان الرحى دارت على اهلها، واظهرت سوء نواياهم، وعجزهم على إنقاذ البلاد، وتشبثهم بكرسي الحكم، مهما كان الثمن، فاختلط الحابل بالنابل، وتزعزع استقرار البلاد، وعجزت العدالة على الوصول الى مرتكبي جرائم الاغتيالات السياسية، وذهب ضحية ذلك شهداء ثورة الحرية والكرامة وفي مقدمتهم شهداء المؤسستين الأمنية والعسكرية، وعجز الدستور الملقب "بأحسن ما اخرج للعالم"، توافقي في نصه، مدعاة الحقوق والحريات، مكن من تنظيم انتخابات طبق قانون انتخابي، كتب على المقاس، وظهرت مساوؤه في تشتت الحكم، وضعف التمثيلية، لعدم الإقبال على صندوق الاقتراع… لقد مثّل التوافق الزمني آن ذاك، مرحلة هامة في سبيل الانفراج، الذي لم يعمر طويلا، اذ غاب الحوار جملة وتفصيلا، وبفقدانه كل مخاطر العنف والفوضى محتملة، مهددة كيان الدولة المدنية، والرجوع الى المنظمات الراعية للحوار ولو ظرفيا، لمعالجة الأزمة الحالية، اصبح من الضروريات المستعجلة، لتقريب وجهات النظر، ودعم أسس الوحدة الوطنية، وتسريع نسق الأعمال التأسيسية الخاصة ببعث المحكمة الدستورية، واعادة كتابة قانون الانتخاب، حتى ترجع السيادة للشعب، وتعاد الهيبة والوقار لاهمّ مؤسّسات الدولة، وهي رئاسة الجمهورية، ومجلس نواب الشعب، والمصادقة على حكومة جديدة، تكون محلّ توافق عريض، بين أهمّ مكونات المجتمع، ويعود المجلس النيابي الى مهامّه الاصلية من خلال التشريع، ومراقبة العمل الحكومي، فالنائب اليوم مطالب بالتواصل مع المواطنين، و خاصة معرفة مشاغل الدائرة التي انتخب فيها، تحت لواء الحزب الذي ضمن له التمثيلية، ورفعها إلى الجهات المعنية، والتدخّل لديها، للاستجابة لها وتسويتها، وقد اعتمد الرئيس محمد الناصر في رئاسته للمجلس التوافق كمبدأ في تجاوز الإشكالات، قبل اللجوء إلى الجلسة العامة للمصادقة على مشاريع القوانين، وهو ما تطلّب الكثير من التروّي، والمزيد من التشاور، ذلك أنّ أغلب مشاريع القوانين تستدعي، إلى جانب توسيع الاستشارة لدى أهل الاختصاص، تكثيف التشاور داخل المجلس بين مختلف الكتل البرلمانية،حتّى تحظى بأكبر توافق ممكن، وقد عشت التجربة عن كثب، لمدة عام كمستشار للرئيس، في ميدان الاقتصاد، وقي علم الاحصاء، و بحرص من رئيس المجلس توالت الاستشارات، وتوسعت الى منظمات المجتمع المدني، وكانت في هذا المنهج افادة وجدوى، ولم تعد القوانين كما كانت مبتورة، اذ نالت حضها من النقاش، وصودق عليها بالاجماع.. اكثر من عشر سنوات مرّت من عمر الثورة، وان كانت بمقياس التاريخ فترة قصيرة في حياة الشعوب، لا تمكن من بناء التحوّلات العميقة، كتحقيق الأهداف الكبرى، والاستحقاقات المنتظرة، لكنها كافية لاختيار منهج، ورسم خريطة بفضل تضافر جهود الجميع، تأمن مسار ديمقراطي ناجح، وسط وضع دولي متأزم، يزيد في تشعبه ظهور جائحة صعبة المراس، لأنها مجهولة تماما حتى من اهل الاختصاص، وبوادر السيطرة عليها تلوح، باختراع تلقيح مضاد لها، وهو انتصار للعلم، وللدول الغنية التي انفقت اموالا طائلة في البحث عن الدواء اللازم، وراهنت على انتاجه بسرعة فائقة، وكان لمواطنيها الاولوية في العلاج، وأمام تحدّيات أمنية واقتصادية واجتماعية وبيئية متعددة الاطراف، وغياب أسلوب الشفافية والحوار والتوافق، تعثر المسار، وكبا الجواد، وغاب ربان السفينة، وظهر للعيان التطاحن، والمعارك الوهمية، وغابت على الذين يحكمون البلاد، منذ الثورة المباركة، ان للديمقراطية مناخا سياسيا، وروافد اخلاقية، توفر الفرص والخيارات امام الجميع، وتمكن البحث عن الحلول الملائمة، لهشاشة الوضع الاجتماعي الذي يشهد تصاعد التوترات، بحكم تفاقم أزمة البطالة، وخاصة لدى حاملي الشهائد العليا، ويبقى موضوع التشغيل اولوية مطلقة، لارتباطه بتوفير أسباب الاستقرار والامن، ويمكن تخفيف الوطأة بالاستثمار في القطاعات التي لها طاقة تشغيلية، وإدخال الإصلاحات الجذرية على الادارة وعلى برامج التعليم والتكوين، والصحة التي اظهرت الجائحة حالة القطاع المزرية، التي يعاني منها اهل المهنة، و تلبية لما نادت به الثورة وجب التفكير في خطة وطنية متكاملة، للحد من الفقر، وايجاد آليات تضامنية لتوفير الحد الأدنى من الدخل لكل العائلات التونسية، ومن البديهي مصارحة الجهات التي تشهد ظروف من الاحتقان الاجتماعي، واقناعها بضرورة العمل المشترك على تحقيق درجة نمو سريعة، كافية لتحقيق اسباب العيش الكريم، وتطلعات الشعب باسره الى الغد الافضل، ولذلك بلادنا في حاجة إلى تهدئة الأوضاع، وامتصاص حالة الغضب والشعور بالخيبة، والى العمل التضامني لمواجهة التحديات الكبرى، و التصدي للاقتصاد الموازي الذي وجد في ضعف الدولة مدخلا ليزدهر، كفانا من صحافة الياس وضجيجها ونشازها، و من فبركة السياسة والسياسيين على القياس من اعلام امتاز بولائه، وسو ء ادائه، كان الحكام نكرة في معظمهم، اخرجوهم من الظلمات الى النور، فتنكروا لولي نعمهم، ولم يكونوا في المستوى المطلوب، واصبحوا كغيرهم من صناع الاوهام ولنعمل جميعا على وضع حد للانزلاق الى الظلمات، وتجاوز الخلافات، واسترجاع الثورة الى أهلها بالصدق في القول والانجاز في العمل والمثالية في السلوك، و بلادنا دمرها فبركة السياسة والسياسيين على المقاس، لذلك وجب على العالم ترشيحها، من جديد، للفوز بجائزة نوبل من طراز آخر، يمكن نعته بجائزة "السياسات الفاشلة"، ونحتل بلا شك الصدارة في هذا الميدان، لقد نسينا الماضي الذي هو بداية مستقبلنا، رغم ان كل واحد منا هو ثمرة تاريخنا، وإن ثقافتنا هي ما يجمعنا، ولا يمكن لبلدنا أن ينهض، ويمضي قدمًا بشجاعة، إذا لم نعرف من أين أتينا، واين نسير، في عالم تتلاشى فيه المعايير، ويفقد فيه التضامن، وتباع الهمم، و تسيطر فيه الفردانية، رغم أن الثورات الرقمية والبيئية والتكنولوجية والصناعية التي تلوح في الأفق كبيرة وكبيرة جدا، وبلادنا كانت سباقة في التاريخ، يقرأ لها الف حساب في الماضي، لأنها اتخذت من السياسة أنبل جزء منها وهو تحويل الواقع، ونشر العمل، واعادة السلطة للشعب... فأين نحن اليوم من كل هذا؟ هوامش رجب حاجي : دكتور في الاحصائيات- دكتور في الاقتصاد- شهادة تكوين مستمر بجامعة هارفارد الأمريكية - ألف أربع كتب في علم الإحصاء في المستوى الجامعي- دون في كتابين مقالاته التي صدرت في جريدة "لابراس" وفي جريدة "الصريح" التي يواصل في الكتابة فيها- أول رئيس بلدية ملولش -دون إثر انتهاء مهامه كتاب "وعد وانجاز 1985-1990"- شغل رئيس ديوان المرحوم محمد الصياح عشرات السنين ورئيس ديوان وزيرة الصحة ومكلف بمهمة في اختصاصاته لدى رئيس مجلس نواب الشعب محمد الناصر اطال الله عمره الى غيرها من المسؤوليات الوطنية