يتداول الرواة منذ ما يقرب عن قرن ونصف من الزمان، أن الثائر علي بن غذاهم، وقد أتى عروش الحوافظ من الفراشيش نصب نفسه بايا على البلاد وكاتب العديد من القبائل داعيا إياهم الى مبايعته فأجابه أخلاط منهم. ولما وصلت رسالته الى امحمّد كوكا صاحب زاوية «الصديقية» وشيخ قبيلة الهمامة قرأها وابتسم ابتسامة تشوبها السخرية وهو يردد على مسامع رجال قبيلته: «يريدني أن أكون وزيرا في بلاطه، أيعقل أن يكون شيخ الهمامة وزيرا لدى علي بن غذاهم الفرشيشي؟!»، وهكذا كان الانشقاق الذي أدى الى فشل تلك الثورة التي سماها المؤرخ توفيق البشروش في كتاب رائع «ثورة العربان» وتنامت العداوة بين القبيلتين. هرب علي بن غذاهم الى الجزائر بعد أن طارده الأمير رستم، ثم سرعان ما عاد مختفيا حتى علم بوصول أبي عبد الله محمد العيد ابن الولي العارف بالله أبي الحسن الحاج علي التماسيني قادما من صحراء المغرب باتجاه البيت الحرام لأداء مناسك الحج، فلاذ به وطلب منه الشفاعة عند الباي، لكن هذا الأخير رفض التماس الشيخ وقال له، كما ورد في الاتحاف لإبن أبي الضياف: «إن شفاعتك مقبولة في علي بن غذاهم في الأمن على دمه، الا أن الحال يقتضي إبقاءه بباردو، آمنا على نفسه، لأن تسريحه والحالة هذه نتوقع منه هرجا، مازلنا في إطفاء ناره». ثم أمر بسجنه في بيت الحوانب. إن العبرة من هذه الرواية ذات النصف الشفوي والآخر المدون هي أن الصراع على السلطة هو آفة الثورات، خاصة اذا كان هذا الصراع ذا مرجعية قبلية كما هو الحال في ثورة علي بن غذاهم. أذكر بهذه الواقعة وما تتضمنه من عبر، وبعضهم يريد الانحراف بثورة الحرية والكرامة الى حيث الصراعات العشائرية والقبلية والجهوية في حين أنها ثورة كل فئات الشعب التونسي وفي كامل جهات البلاد، فلا هي ثورة الفقراء والمحتاجين، ولا هي ثورة أصحاب الياقات البيضاء وربطات العنق، ولا أيضا ثورة المنظرين والايديولوجيين. فقد كتبنا منذ اليوم الأول للثورة أنها اندلعت من رحم الرغبة الشعبية الجامحة في التحرر والانعتاق، بلا قيادات وبدون ايديولوجيات أو انتماءات مهما كان مأتاها، لذلك كان مدها عارما وكانت شرعيتها عامة وثابتة، فلا يعقل، والحال تلك أن يحاول بعضهم اختزالها في شخص أو فئة أو قبيلة أو جهة، وأن يتعمد البعض الآخر اختصارها في عقيدة مذهبية أو ايديولوجية. فمثل هذه الممارسات الالتفافية من شأنها أن تصيب الثورة في صميم وحدتها وقد تفقدها شرعيتها الشعبية. إن التذرع بالتفاوت الجهوي الموروث الذي كرسه الاستعمار قصد اضرام نيران الاحتقان بين أبناء الشعب الواحد، للانحراف بالثورة عن أهدافها الأساسية، هو خيانة لها، وسقوط مجاني في «الشعبوية» السياسية التي لا تتحمل بلادنا أوزارها الثقيلة. لقد بدأ كل التونسيين ثورة الحرية والكرامة متآزرين فليوصلوها الى مرافئ الأمان متضامنين، وفي ذلك نجاح باهر للنموذج الذي وقف له أحرار العالم إجلالا يوم الرابع عشر من جانفي.