ان مايحدث في ساحتنا السياسية، المضطرمة استعدادات للمواعيد الانتخابية المرتقبة يؤكد حالة الارتباك والفوضى والانفلات التي تعيشها البلاد، اذ مازلنا، للأسف الشديد، عاجزين عن انتهاج المسلك القويم الذي يعيد للبلاد استقرارها ويفتح آفاق الأمل المشروع أمام الناس. فأغلب «النخب» السياسية لاتفرّق بين «التعبئة الشعبوية» و«الاستقطاب الشعبي» وبين «الإنارة التوجيهية» و«الإثارة التحريضية» وبين تبني مطالب الناس والارتهان لنزواتهم وهوما يعني، على أرض الواقع، انحدار العمل السياسي الى حضيض المزايدات التي لامستقر لها. صحيح أن التنافس في مفهومة السليم، يتطلب زخما تعبويا، وصحيح أيضا، ان كل سباق لابد أن ينتج خطابا التفافيا، ولكن توجد حدود لايمكن تخطيها، وثوابت لابد من احترامها وقيم ومبادئ يتحتم الالتزام بها، والا أصبحت الممارسة السياسية ضربا من ضروب الانفلات بجميع أنواعه. فلايعقل، مثلا، أن نجد من يدافع عن الذين يسطون على منازل غيرهم، بدعوى انهم فقراء أو تبرير العنف والشغب والاعتداء على الأملاك العامة والخاصة. من منطلق صيانة حرّية التظاهر، واستنباط الذرائع الحقوقية للاقناع أن الاقتتال العشائري والقبلي أمر طبيعي (هكذا)! ففي الديمقراطيات الكبرى أو تلك حديثة العهد تتعرض الأحزاب والمنظمات التي لاتلتزم بالمواثيق المجتمعية الى عقوبات صارمة تصل الى الحظر النهائي، ويمنع قادتها وزعماؤها من الترشح للانتخابات، كما حدث لمؤسس الجبهة الشعبية بفرنسا وزعيمها التاريخي «جون ماري لوبان» بسبب خطابه «الشعبوي» ذي النبرة العنصرية واللاسامية ولمؤسس حزب الفضيلة التركي الرال «أريكان» لعدم احترامه الدستور اللائكي، والأمثلة عديدة. ومن جهة أخرى، تتبارى الأحزاب في ساحتنا، لإطلاق الوعود الخيالية للناس قصد استقطابهم فيتحدث قادتها عن تشغيل العاطلين والمعطلين دفعة واحدة، واقرار مجانية التعليم للجميع، والترفيع في الدخل الفردي ليصل الى مستوى ماتتمتع به الشعوب الغنية والمتقدّمة، وتوزيع الثروات، وتخفيض الاداءات ومنهم من وعد علنا بتحويل تونس الى جنة على الأرض في أشهر معدودة!! ولكن لا أحد من كل هؤلاء كما قال السيد مصطفى كمال النابلي محافظ البنك المركزي «قدّم حلولا لجلب المال او بدائل اقتصادية للترفيع في نسق التنمية». فالناس قد يصدقون الوعود في لحظة سهو وعدم تركيز، لكنهم يردون الفعل بقوة عندما تصدمهم الحقيقة وتتراءى امامهم خيوط الخديعة، فكم من حزب اندثر بسبب وعود لم تنجز من سياسي ذهب ضحية تغذيته لأحلام الناس بما ثبت انه بهتان. لقد حدث واستمع التونسيون باستغراب شديد واستهزاء خفي ومعلن الى مسؤولي احزاب ناشئة وهم يتحدثون عن حلول سحرية لكل المشاكل المطروحة، دون اشارة، ولو عابرة، الى نوعية الآليات التي سيعتمدونها. لاشك أننا في مرحلة الدربة السياسية، وهي مرحلة الأخطاء والاحلام المجنحة والتعثر والسراب، واختلاط الحابل بالنابل، ولاشك أيضا، ان الأيام ستتولى مهمة الغربلة الدقيقة لكي لايبقى الا ما ينفع البلاد ويقنع الناس، ولكن هذا لايبرر مطلقا مايحدث في ساحتنا السياسية من انزلاقات «شعبوية» خطيرة لست بصدد التعميم، اذ توجد بعض الأحزاب الملتزمة بالمواثيق الأخلاقية للعمل السياسي الفاعل والنزيه، ولها برامج ذات مضامين موضوعية، ولكنها، للأسف الشديد ، قليلة العدد في ساحة تعيش حالة هستيرية من التناسل الحزبي المنفلت.