إن قراءة موضوعية في تسلسل الأحداث والوقائع، على امتداد أكثر من ست سنوات تحيلنا على الكشف عن حقائق مذهلة ، أولها ان الدولة، ممثلة في الحكومات المتعاقبة طيلة هذه المدة ، تعاملت مع كل التجاوزات بكثير من المرونة المبالغ فيها إلى حد الضعف المسيء لهيبتها ، و0قترحت العديد من الحلول التي تم توظيفها من قبل المنفذين بشكل تشتم منه روائح تزكم الأنوف، وقدمت الكثير من الوعود اللاواقعية في أغلبها بغرض تأجيل الأزمة ولكنها لم تفلح مطلقا في وضع حد للإضرابات والإحتجاجات وتعطيل المرافق والمؤسسات وإيقاف الإنتاج ،وتأكد بصورة جلية أن المحرضين على مثل هذه الخروقات لهم أجندات خاصة بهم ولا علاقة لها بما يشاع من تبريرات، بل هم لا يريدون أي حل ، سعيا إلى إبقاء الحالة على ما هي عليه ومزيد تأزيمها لتوفير الظروف الملائمة لتنفيذ مخطط بعض الجماعات المتطرفة. إن الخطر يكمن في تواصل تعامل الدولة مع المسألة بكثير من التراخي الذي شجع المحرضين على تكثيف التجاوزات المهينة للدولة . مالذي جعل الدولة مترددة في تطبيق القانون؟ ولماذا تعاملت المؤسسات والهياكل المعنية بمثل هذه المسائل بذاك الغموض والإلتباس المثيرين للريبة ؟ ومن هي الأطراف الفاعلة التي تسعى إلى عرقلة كل الحلول المقترحة ؟ كلها أسئلة يرددها الشارع بحيرة بالغة دون أن يجد لها أجوبة مقنعة في الحوار الذي أجراه يوسف الشاهد ، خاصة وأن درجات الإحتقان إرنفعت بشكل مخيف في الكثير من المناطق ، خلال الأيام الأخيرة وأخذت الإحتجاجات مظاهر تخريبية ، وبدا جليا وواضحا مع مرور الأيام وتفاقم المشاكل أن المعضلة الأساسية تكمن في أننا أصبحنا نتعامل مع الحقوق ، والمطلبية منها بالخصوص، بمنطق الغنائم وأسلوب الإغارة ، ونعتبرها مكاسب فردية مطلقة وغير خاضعة لأي شكل من أشكال القسمة والشراكة في حين ان الحق نسبي ولا تكتمل شرعيته إلا إذا لم ينتهك حقوق الآخرين، كما إن إمتلاك هذا الحق يفرض ، بالضرورة، إلتزاما بالقيام بالواجبات ، وبهذه المعادلات يتم بناء المجتمعات المتماسكة والدول المدنية والديمقراطية ، لأن الحقوق تفقد شرعيتها وصلاحيتها كلما كانت سالبة لحقوق الآخرين ومضرة بمصالحهم. نذكر بهذه البديهيات بعد أن تعددت الإضرابات وتكثفت الإحتجاجات بأسلوب " أنصر أخاك ظالما أو مظلوما"، متسببة في ضياع مصالح المواطنين. فأي حكومة مهما كان شكلها ، حتى وإن كانت حكومة "وحدة وطنية" لن تنجح في مثل هذه الأوضاع المتسيبة والمنفلتة هذا لا يعني بطبيعة الحال التشكيك في شرعية بعض المطالب الاجتماعية ، ولا يعني ، أيضا ، الطعن في الحق النقابي ولكن لا بد من وضع الأمر في إطاره القانوني والأخلاقي الحامي للمصالح الوطنية العليا ، كما انه من حق كل مواطن الإحتجاج بطرق سلمية دون التسبب في تعطيل العمل في القطاعات وإثارة الفتن وتخريب الممتلكات الخاصة والعامة ، إن ما يحدث حاليا لا يساعد على الإصلاح والنهوض والتقدم بل يزيد في تعكير الأوضاع وتعميق الإحباط لدى المواطنين فنحن بحاجة أكيدة وماسة لتجميع قوى الوطن وتوجيهها نحو مسالك البناء العقلاني السليم الذي يمكن من حل مشاكلنا الإقتصادية والأمنية والإجتماعية والسياسية ، ويعبد أمام أجيالنا الصاعدة طريق التطور والتمدن والرقي الإجتماعي. إن مهمة حكومة يوسف الشاهد عسيرة جدا في ظل بقاء الأوضاع على ما هي عليه من تسيب وفوضى و0نفلات و0نعدام الشعور بالمسؤولية لدى أغلب الأطراف الفاعلة في البلاد ، وستكون مستحيلة ، أيضا، إذا ماهي عجزت عن مقاومة هذه الآفات و0ستعادة سلطة القانون ومؤسساته، لأن الحرية والقانون توأمان فإذا ما انفصل أحدهما عن الآخر عمت الفوضى وضاعت حقوق الجميع. ومن هذا المنظور ، أعتقد جازما أن أهم مهمة يجب على حكومةيوسف الشاهد القيام بها هي : فرض سلطة القانون على الجميع دون إستثناء وبالتالي تأمين إستعادة الدولة لنفوذها وهيبتها وهي مهمة على غاية من الصعوبة نظرا للإرث المرعب من الفوضى الذي تراكم على امتداد أكثر من ست سنوات والذي يتزايد مع مرور الأيام، وظهور لوبيات ومراكز قوى ضاغطة، ليست مستعدة للتفريط في مصالحها ومكاسبها غير المشروعة التي غنمتها في خضم الفوضى السائدة وضعف الدولة ومؤسساتها. كما لا يمكن، مطلقا،القضاء على الإرهاب، وإجراء إصلاحات هيكلية مجدية و0تخاذ قرارات جريئة ، وطمأنة الناس على أن مطالبهم وتطلعاتهم وحقوقهم بين أيادي أمينة، بالتردد والإرتباك والإرتعاش والخوف والتراجع خطوات إلى الوراء كما فعلت الحكومات الست السابقة.