منذ إطلاق مشروع» مارشال» لدعم ألمانيا واليابان في أربعينات القرن الماضي وهذين البلدين مصنفين ضمن معسكر واحد أي أنهما حليفان ولم نشهد يوما حصول أزمة بينهما، فهما عضوان رئيسيان في حلف شمال الأطلسي إضافة إلى أن ألمانيا التزمت بما تم الاتفاق عليه أو فرضه عليها عقب هزيمتها في الحرب العالمية الثانية خاصة على المستوى العسكري. هذا الاتفاق لا يمكن إنكار كونه خدم الألمان بشكل كبير حيث أنهم وجهوا كل مواردهم وإمكاناتهم وجهودهم لبناء اقتصاد قوي بعيدا عن التورط في أي نزاعات خارجية على خلاف الولاياتالمتحدة التي استنزفت الكثير من مواردها أثناء الحرب الباردة وبعد ذلك عندما حولت نفسها إلى شرطي في العالم حيث أنها لا تكاد تخرج من نزاع حتى تدخل في آخر بداية من الحرب الكورية إلى الفيتنام إلى أفغانستان فالعراق . في فترة تولي باراك اوباما الرئاسة سعت أمريكا إلى تغيير أسلوبها في التعامل مع الأزمات الدولية وصارت تخوض الحروب بالوكالة أي أنها لم تعد تورط جيشها في حروب مباشرة لكنها تدعم أطرافا على حساب أخرى وحتى إن اضطرت للتدخل فهي تكتفي بسلاح الجوّ دون التورط في معارك أرضية . هذه السياسة انتقدت كثيرا داخليا خاصة من الجمهوريين الذين رأوا فيها سببا في تراجع مكانة الولاية المتحدة بالتالي ظهور قوى أخرى صار لها نفوذ خارجي على حسابها وخاصة الصين وروسيا وأيضا إيران في منطقة الشرق الأوسط. لكن السؤال هنا: ما علاقة ألمانيا حتى تتوتر علاقاتها مع الولاياتالمتحدة ولم يرصد لها أي تحرك أو سعي لفرض نفوذها عسكريا في أي مكان؟ ما يحصل بين الولاياتالمتحدة أو بالأصح إدارة ترامب وبرلين قد لا تكون له علاقة بهذا بشكل مباشر لكن بشكل غير مباشر هناك علاقة بمعنى أن الإدارة الجديدة التي يترأسها بالأساس رئيس هو في الأصل رجل أعمال صارت تنظر للأمور بمقياس جديد هو حجم الإنفاق . الأزمة التي تحصل حاليا بين ألمانياوالولاياتالمتحدة يمكن أن نفهمها مما قاله حولها ترامب ذاته:»هناك عجز تجاري ضخم مع ألمانيا التي تدفع اقل مما يجب للناتو للانفاق العسكري وهذا أمر لم تعد تقبل به أمريكا وسيتغير». إذن المشكل الحقيقية اقتصادية داخليا وعسكرية خارجيا . لنفهم هذا الأمر علينا أن نفهم طبيعة علاقة الولاياتالمتحدة بالناتو أي حلف شمال الأطلسي حيث أن واشنطن تساهم بنسبة 72بالمائة من ميزانيته وهذا منذ عقود فالأمر ليس بجديد بل أكثر من هذا، فالموضوع لم يثر بهذه الطريقة سابقا. ما تدفعه أمريكا في ميزانية الناتو يصل سنويا إلى 664مليار دولار وهي من بين الدول القليلة في هذه المنظمة التي التزمت بالاتفاقية التي تنص على أن تدفع كل دولة عضو ما نسبته 2بالمائة من دخلها القومي لذلك نجد ترامب يطالب الدول الأعضاء في الحلف بزيادة نسبة الإنفاق العسكري . مع العلم أن هذا الرقم متعلق بالإنفاق العسكري الأمريكي ككل وليس المقصود منه ضخّ هذا المبلغ في ميزانية الناتو. في مقابل هذا فان ألمانيا لا تدفع إلا 42مليار دولار وهو رقم لا يمكن مقارنته مطلقا بما تدفعه أمريكا بل أن دولا اقتصادها اقل قوة منها مثل بريطانيا وفرنسا تدفع أكثر منها. علينا أن ندرك هنا أيضا أن إدارة ترامب طرحت الموضوع نفسه في خصوص الأممالمتحدة وطلبت تقليص نسبة تمويلها وهي الأكبر حيث أنها ت 28بالمائة وهو ما آثار حفيظة الأمين العام للأمم المتحدة الذي حذر من أن حصول هذا يعني عدم قدرة المنظمة مستقبلا على الإيفاء بتعهداتها في الإنفاق على اللاجئين وبعثات السلام الدولية. ما يهمنا هنا هو أن الولاياتالمتحدة في حقبة ترامب تريد تقليص مساهماتها في المنظمات الدولية والتحالفات التي تشارك فيها ومنها حلف شمال الأطلسي في مقابل رفع مساهمة دول أخرى غنية ومنها ألمانيا باعتبارها القوة الاقتصادية الأولى في الاتحاد الأوروبي. لكن لماذا هي بالذات التي يركز عليها ترامب. ما طرح مع ألمانيا حاليا طرح نفسه في فترة رئاسة اوباما لكن مع الصين أي الحديث عن خلل في التعامل التجاري و إغراق السوق الأمريكية بالمنتوجات الصينية . بالنسبة لألمانيا فالأمر متعلق أساسا بصناعة السيارات فمعلوم أن هذا القطاع هو الأقوى في ألمانيا والسيارات الألمانية هي المفضلة عالميا والسوق الأمريكية تطلبها بكثرة وهو ما يقصده ترامب بقوله هناك خلل في التبادل التجاري مع ألمانيا . ما يطرح اليوم من أفكار لمواجهة هذا الخلل ليس منع السلع الألمانية من دخول الولاياتالمتحدة وكذلك السلع الصينية بل المقصود رفع قيمة الاداءات المستوجب دفعها أي المسّ من مبدأ حرية التبادل ذاته . السؤال الآخر الذي يطرح هنا هو: هل أن ما يخطط له ترامب مصيب؟ بالتأكيد هذا الأمر يتطلب خبراء في الاقتصاد ليقيموه لكن أهم ما يمكن الإشارة إليه هو أن الاقتصاد الغربي ككل قائم على حرية التبادل أي الرأسمالية المفرطة وما نلحظه هو أن ترامب يمس هذا المبدأ.