أكد لي أحد كبار المحللين الإستراتيجيين الفرنسيين ، خلال زيارة له إلى بلادنا إلتقى فيها العديد من المسؤولين السياسيين والفاعلين الإقتصاديين والإجتماعيين أن قراءة معمقة وموضوعية لما يحدث في تونس تفيد بأن :"الثابت إلى حد الآن هو أن كل شيء قابل للتغيير " !! وعندما سألته كيف ينظر المسؤولون السياسيون في أوروبا لما يحدث في تونس ؟ أجاب بسرعة ودقة :" بترقب". لا شك ان هذه الإجابة تحمل بين طياتها الكثير من المعاني وتفسر التردد والإرتباك المسيطران على المواقف الأوروبية تجاه تونس ، خاصة في ما يتعلق بالمساعدات الإقتصادية التي وعدوا بها خلال السنوات الست ونصف المنقضية . لا يتعارض الموقف الأوروبي مع مواقف العديد من المسؤولين التونسيين الذي تحدثوا،أكثر من مرة عن إمكانية حدوث تغيير هام في المشهد السياسي الوطني في قادم الأيام لتراكم الأحداث والوقائع وتواتر المستجدات وظهور بوادر غضب شعبي ورفض للمبادرات التقشفية ، وقد أخذت بعض التحركات في الشارع السياسي منحى مقوضا للسائد كسعي بعض الأحزاب إلى تكوين جبهة برلمانية جديدة ذات أغلبية قادرة على الإطاحة بحكومة الوحدة الوطنية وتعويضها بأخرى دون مشاركة حركة النهضة، وتحرك هذه الأخيرة بقوة لمواجهة هذا المسعى المهدد لتأثيرها في صناعة القرارات و0نبعاث جبهات تفكير وتقييم ذات أهداف سياسية مستقبلية . كل هذه المعطيات التي تزداد تراكما من يوم إلى آخر لم تغب عن المحللين الأوروبيين العاملين في دوائر القرار والمحيطين بالمسؤولين ولوبيات الضغط فجاءت نصائحهم لتصب في خنادق تأمين مصالحهم. لا شك أن علاقات تونس بأوروبا الغربية وخاصة الموجودة على الضفة الشمالية للمتوسط ذات تأثير كبير على الأوضاع في بلادنا في جميع المجالات ، فهي شريكنا الإقتصادي والثقافي الأول، وتجمعنا به مصالح حيوية عديدة بالرغم من جروح وندوب حقب الهيمنة والإستعمار والإستغلال ، وككل التجمعات والإتحادات الإقليمية ذات الأهداف الحمائية يتعامل الإتحاد الأوروبي معنا طبقا لمصالحه الآنية والمستقبلية ، بمعنى انه وإن بدا حريصا على دعم المسار الديمقراطي في بلادنا ومساندة جهود السلطة الحالية في النهوض بالأوضاع الإقتصادية والإجتماعية والأمنية المتردية فإنه يربط تواصل هذا الدعم وتوسيعه بتوفير الضمانات الكفيلة بتثبيت مصالحه المتعددة والهامة في بلادنا،فكل خطوة يخطوها من جانبه لتلبية طلب من الطلبات التونسية إلا ووضع له شروطا مجحفة في أغلب الأحيان. هذه هي القاعدة في تعامل الدول والإتحادات والتجمعات الإقليمية لكن بعض المسؤولين التونسيين الحالمين ذهب في اعتقادهم ان الإتحاد الأوروبي سيتصرف خارج هذه القاعدة لحماية الديمقراطية الناشئة والوحيدة القابلة للإستمرار في المنطقة العربية، كما تتصرف الولاياتالمتحدةالأمريكية مع حليفتها إسرائيل!!!ولكن لا الإتحاد الأوروبي هو الولاياتالمتحدة ولا تونس هي إسرائيل لأن الرابط الوحيد بين الإتحاد الأوروبي وتونس هو المصالح المشتركة والتي تميل جميعها للطرف الأول. ومن هذا المنظور دأبت مجموعات الضغط السياسي والإقتصادي والإعلامي في أوروبا على التعامل مع الوضع في تونس طبقا للمستجدات الطارئة ،فتارة تحرك مياهها الآسنة لتزكم الأنوف بروائحها الكريهة ، وطورا تحيطها ببريق وهالة مبهرتين، وقد أبرزنا في العديد من التحاليل السابقة كيف ضخم الإعلام الأوروبي الخاضع للوبيات الفاعلة الوجود الإرهابي في تونس حتى كاد يوهمنا بنشوء إمارات داعشية في القصرين وبن ڨردان والشعانبي وغيرها من المناطق ، ومن جانب آخر نجد دعوات جريئة وصريحة لمساعدة بلادنا وتكثيف الدعم لها وهو ما يؤكد الإزدواجية الصارخة في المواقف الأوروبية صحيح اننا بحاجة أكيدة وماسة لدعم أوروبي مكثف على المستويين الأمني والإقتصادي ، وصحيح أيضا اننا نمثل بوابة الإستقرار إفي الضفة الشمالية للمتوسط لكن الثابت هو ان الجانب الكبير من مصيرنا مازال بأيدينا ، ونحن قادرون ، بالرغم من الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد، على التفاوض بندية نسبية مع الإتحاد الأوروبي في ما يتعلق بصيانة المصالح المشتركة والدور الذي يمكن ان تلعبه تونس في العديد من القضايا في المنطقة كالأزمة الليبية وتدفق المهاجرين غير الشرعيين على أوروبا، ونشر الديمقراطية في العالم العربي ، وهي أوراق ذات جدوى وتأثير كبيرين.