والله العظيم كنت أشعر وأنا أتابع المقابلة التلفزية التي أجرتها المذيعة اللامعة منى الشاذلي مع المفكر جمال البنا كأنني أمام أعجوبة من أعاجيب الدنيا.. إنه شيء لا يصدّق.. بل هو أمر مذهل.. إنني كنت أرى جمال البنا وهو يتكلم.. ويعبّر.. ويتحدّث.. وأنا غير مصدّق.. والرجل ما شاء الله مازال يحافظ على قدراته الفكرية وذاكرته.. وحصافته.. وتألقه الفكري.. ما هذا؟.. هكذا كنت أتساءل طوال الحوار الذي امتدّ وتشعب وتعقد وخاض في أمور صعبة وعميقة تمسّ أكبر وأخطر القضايا الإسلامية.. أما لماذا كل هذا الاستغراب؟.. فذلك لأن الرجل بلغ من العمر عتيا وصار في سن متقدمة جدا ومع ذلك.. فهو باسم الله ما شاء الله وكأنه في ريعان الشباب.. هل تعلمون كم بلغ من العمر؟.. لقد احتفل في يوم الحوار مع منى الشاذلي بالتسعين بالتمام والكمال.. فاللهم زد وبارك.. إنني أعرف شبانا في الثلاثين لا يملكون ربع ما يملكه جمال البنا من حضور البديهة.. وقوة الذاكرة.. والتألق الفكري.. ويعيشون في خمول وكسل على كل المستويات بينما جمال البنا مازال يخوض المعارك الكبرى.. ويفكر.. ويتأمل.. ويكتب.. وينشر أفكاره التي قد نختلف أو نتفق معها ولكن على كل حال فهو مجتهد ويكفيه فخرا أنه بأفكاره يحرّك المياه الفكرية والثقافية الراكدة.. والآسنة.. إنه بصدد مقاومة الجمود الفكري.. وبالذات مقاومة اعتمادنا على اجتهادات وأقوال وأحكام الموتى.. إن الموتى هم الذين يحكمون فكر هذه الأمة.. ويتسلطون عليها.. ويتحكمون في رقابها وعقولها وأقلامها.. وأفكارها.. لقد توقف العقل العربي بدعوى أن لدينا ما يكفي من الأفكار التي تركها لنا الموتى! إنه أمر عجيب!!! وهذا الأمر هو الذي يقف ضده جمال البنا.. وأنا لست بصدد مناقشة أفكاره ومواقفه وفتاويه.. فذلك أمر يتجاوزني ولكنني بصدد التعبير عن دهشتي من رجل بلغ التسعين ومازال يقاوم.. ومازال ممتلئا بالحياة والحيوية والنشاط.. ومازال يحمل بداخله وفي صدره «قضية».. وذلك هو بيت القصيد.. ألم «يفدّ»؟ ألم يملّ؟ ألم يتعب؟ ألم يضجر؟ صدق من قال: يموت الإنسان ولا يموت فيه الأمل.. ويؤسفني جدا أن أرى في بلدي شبابا مازالوا في بداية الطريق يرمون المنديل.. ويعلنون الهزيمة من أول صعوبة أو حجرة أو شوكة تصادفهم في الطريق ويستسلمون لليأس وينسحبون من الميدان.. علينا أن نعلّم أولادنا وبناتنا العزيمة والإرادة والصبر وقوة الاحتمال والتفاؤل.. قبل أن نعلّمهم الاقتصاد والحساب والتاريخ والجغرافيا وما إلى ذلك.. وقبل أن نعطيهم الشهادات الجامعية التي يظنّ البعض أنها عصا موسى التي تقول للشيء كن فيكون!! علّموهم كيف يصعدون الجبال.. وكيف يمشون فوق الجمر.. وكيف يتحدون الصعاب.. علّموهم كيف يكونون كالنسور.. لا كالفئران الخائفة.. علّموهم أن الحياة لعبة لا ينتصر فيها إلا من يحذقها.. وأول شرط لحذقها هو الصبر.. ثم الصبر.. والصبر.. ثم الصعود درجة.. درجة.. و(امشي بالمداس حتى تلقى الصبّاط)..